مراد علوي – العالم24,
من الحقائق التي لا خلاف فيها بين علماء الاجتماع والتربية والفكر، أن الأسرة هي عماد المجتمع، وقاعدة الحياة الإنسانية، وأنها إذا أسست على دعائم راسخة من الدين والخلق والترابط، فإنها تشكل لبنة قوية في بنيان الأمة، وخلية حية ناضجة في جسم المجتمع ومن ثم كان إصلاح الأسرة هو السبيل الوحيد لإصلاح الأمة، وفسادها وانحلالها، مناط فساد المجتمع وانهياره.
وللأهمية البالغة للأسرة، فإن الشريعة الإسلامية أولتها عناية فائقة ورعاية قل نظيرها، وذلك بسن العديد من الأحكام الضابطة للعلاقات الأسرية في جل مناحي الحياة الاجتماعية. فقررت المبادئ والأسس والقواعد التي تؤسس عليها هذه الأسرة، والتي تكفل لها حياة سعيدة فاضلة، تقوم على معاني المودة والمحبة والرحمة والسكن النفسي، كما عبرت عن ذلك الآية الكريمة، قال تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” سورة الروم، الآية: 21.
وإلى جانب الشريعة الإسلامية فقد عمل القانون الوضعي على تحقيق هذه المعاني التي تحافظ على هذه الأسرة وتحميها من كل الظواهر الهدامة، فجميع القوانين تتوخى الوصول إلى هذه الغاية المنشودة، إضافة إلى تحقيق السلم الاجتماعي، وإقامة العدل والمساواة والرقي بالمجتمع إلى أعلى المستويات، وهذا لا يتأتى إلا بسن قوانين رادعة لكل ما يمكن أن يخل بالنظام العام، وذلك بالتخصيص على زجره ومعاقبة مرتكبيه، ليكـون عبرة لغيره، وهذا كله من أجل الحفاظ على كيان الأسرة.
وإذا كان القانون الوضعي في جل فروعه يتوافق مع المبادئ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية بخصوص الأسرة. فإن القانون الذي يلامس أكثر هموم ومشاكل المجتمع هو قانون “الأحوال الشخصية” أو حسب التعديل الجديد “قانون الأسرة”. فهذا القانون وإن كان يصنف ضمن القوانين الوضعية إلى أنه أقرب في معظم أحكامه إن لم نقل كلها إلى الفقه الإسلامي.
ويمكن القول أن هذا القانون لاق استحسانا وتقبلا واسعا من لدن شرائح المجتمع المغربي كلها، وبدون استثناء، والسبب أنه تعرض إلى جل القضايا التي كانت تشغل بال الأسرة المغربية فتعددت كتبه ومواده، ورعي في إعدادها العديـد من المقاييس: المقياس الشرعي، والقانوني، والحقوقي، والاتفاقيات الدولية، والعرف.
ومن المباحث التي فصل فيها هذا القانون أكثر وخصها بتعديلات مهمة مبحثي: الزواج والطلاق، لأن معظم هذه الانتقادات كانت تصوب نحو هذين المبحثين. والسبب أن بعض فصول هذه المباحث كانت مستصاغة بعبارات عامة ومحتملة وكان تفسيرها وتطبقها على المستوى القضائي يخلق تضاربا: حتى مع نفس المؤسسة وذلك راجع إلى هذا العموم الذي صيغت به بعض فصول هذا القانون، والتي كانت تعطي لكل مجتهد في مجال الأسرة وخاصة السادة القضاة أن يفسروا النص ويطبقونه حسب ما يرجح عند كل واحد منهم، وقد تولد عن هذا وجود إشكالات عملية وقانونية لازال بعضها قائما إلى الآن.
ومن الإشكالات التي كانت مطروحة ولازال جزء منها لم يحل هي قضية الوكالة في الزواج، والطلاق، حيث أنه كان يعاب على هذه الوكالة في ظل هذا القانون، قانون الأحوال الشخصية بأنها كانت وكالة عامة غير مقيدة بشروط سواء في الزواج أو في الطلاق (وهو ما كان يتولد عنه عدة إشكالات ويمكن القول أن المشرع تدارك بعضها في قانون الأسرة )
ففي الزواج كان المشرع ينص على هذه الوكالة في الفقرة الأولى من الفصل العاشر بقوله: “يجوز للولي أن يعقد نكاح وليته كما للزوج أن يوكل من يعقد عنه” ويزكي هذا النص ما قلته من أن الوكالة كانت في مدونة الأحوال الشخصية وكالة عامة خاضعة في حكمها للأحكام الواردة في قانون الالتزامات والعقود المغربي ولم تكن تتناسب وطبيعة عقد الزواج كما أنها لم تكن تساير ما يتم العمل به في بعض القوانين المقارنة، وخاصة القانون التونسي، حيث الوكالة في الزواج مقننة وأخضعها لضوابط وشروط ميزته عن غيره من القوانين الأسرية.
وإذا كانت مدونة الأسرة لم تعالج موضوع الوكالة في الزواج بالمستوى المطلوب، يمكن القول إن الحال تغير مع صدور قانون الأسرة الجديد، حيث أصبحت الوكالة في الزواج وكالة خاصة مقننة أكثر، وتخضع لعدة ضوابط تجسدت كلها في المادة 17 من المدونة، والتي جاءت كل بنودها تتحدث عن الوكالة، وعن طبيعتها والأسباب التي تدعو إليها، والشروط الواجب إتباعها في تحريرها وما يجب أن يضمن فيها وما لا يجب أن يضمن مع إلزام المشرع في القانون الجديد القضاء بمراقبة هذه البيانات، والقيـود الواردة في جميع وكالات الزواج وإلا كان مآلها البطلان.
وبخصوص الوكالة في الطلاق يمكن القول أن قانون الأسرة لم يعالج الإشكالات التي كانت تطرحها هذه الوكالة في مدونة الأحوال الشخصية بل زادها إشكالا آخر هو أعظم من الإشكالات التي كانت مطروحة، حيث حذف الوكالة في الطلاق، ولم ينص عليها بل فضل السكوت. وهذا خلق إشكالا فقهيا وعمليا كبيرا.
أما بخصوص الوكالة في الطلاق فإن التساؤل الذي يطرح وهو: هل كان المشرع في مدونة الأسرة موفقا في عدم التنصيص على هذه الوكالة؟ أم أنه غير موفق؟ وهل هذا السكوت يمنع العمل بالوكالة في الطلاق؟ أم أن عامل الظروف وبعض الحالات الاجتماعية ستجعل القضاء المغربي حائرا بين العمل بها وعدم العمل، خاصة ونحن نعلم أن الفقه الإسلامي يجيزها والمدونة أحالت على؟
إن القوانين كيف ما كان نوعها، وكيف ما كانت قوة زجرها للأفعال المجرمة، تبقى قاصرة ودون فعالية إذا لم يكن بجانبها قضاء فعال وحازم في اتخاذ القرارات.
فالمعمول أولا وأخيرا ليس على القوانين في حد ذاتها، إنما المعمول هو على القضاء وأجهزته، وبما أننا نبحث في قانون الأسرة، وهو أقرب قانون ملامس للحياة الاجتماعية اليومية للإنسان، فإن هذا القانون بدوره يبقى دون جدوى إذا لم يكن بجانبه جهاز قضائي فعال ومتطور، قادر على بلورة توجهات ومسارات المشرع. فالقضاء هو المفعل الأساسي لمواد المدونة، وواضع الحلول للإشكالات التي يطرحها هذا القانون.
ومن أبرز الإشكالات التي تقاطبت على أقسام قضاء الأسرة بالمملكة، قضية إعمال الوكالة في الطلاق، فبخصوص هذه القضية يمكن القول أن القضاء الأسري انقسم بخصوصها. فهناك من بين أقسام قضاء الأسرة من ترفض هذه الوكالة مطلقا، وتأمر أصحابها بتصحيح المسطرة، وعلة هؤلاء أن المشرع سكت على هذه الوكالة وهذا يعني في نظر اجتهادهم أنه لا يجيزها. وقد التزم أصحاب هذا الاتجاه بحرفية القاعدة القانونية العامة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص رغم أنها فكرة تصنف ضمن القضاء الجنائي، إلا أنها تعتبر مذهبا للاحتجاج عندهم وعند كل من أراد أن يمتنع عن إيجاد حل لنازلة عرضت على القضاء ليس فيها نص أو ليس بينها سند قانوني.
يتمثل هذا الأساس في الاجتهاد والتي تحيل عليه المادة 400 من المدونة، حيث يلاحظ على هذه المادة أنها جاءت بمقتضى جديد، وهو ما يظهر من خلال الجملة الأخيرة من هذه المادة. والتي تدعو إلى إعمال الاجتهاد الذي يجب أن تراعى فيه قيم الإسلام المتمثلة في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف.
فنص المادة يفيد أن الاجتهاد المأمور بالرجوع إليه ليس مقصورا على المذهب المالكي إن كنا نعلم أنه يجيز الوكالة في الطلاق، بل يبقى هذا الاجتهاد مفتوحا على المذاهب الأخرى، حسب نص المادة.
إذا فالأساس هو عدم الخروج عن قيم الإسلام المتمثلة في العدل والمساواة… في حال غياب النص لحكم أي نازلة من النوازل المعروضة على القضاء، ومن النوازل المعروضة على القضاء في غياب نص قانوني، كما هو معلوم قضية الوكالة في الطلاق، وهذا ألزم السادة القضاة بالرجوع إلى الاجتهاد وتطبيق القانون وفق روح النص والغايات التي يتوخاها المشرع فإذا كان قانون الأسرة لم ينص على هذه الوكالة فإنه أحال على المذهب المالكي وإعمال الاجتهاد الذي أحالت عليه المادة 400 يفترض معرفة عميقة بالأحكام الفقهية وكذا المعرفة بالمقاصد الشرعية وخاصة منها تلك التي تهدى بهديها المدونة
وعلى معرفة بالثقافة التي من شأنها أن تساعد على إدراك أحوال المتقاضين وأوضاعهم فإذا ابتعد المجتهد عن هذا المبتغى فلن يكون مؤهلا لممارسة العملية الاجتهادية ولن يكون قادرا على حماية حقوق المتقاضين”
المصدر؛ alalam24