السجل العدلي المغربي وإشكالية العقوبة الأجنبية… أزمة قانونية صامتة تكشفها دراسة الأستاذ عبد الصمد البردعي

يشكل السجل العدلي إحدى الركائز الأساسية ضمن المنظومة القضائية المغربية، باعتباره وثيقة رسمية تُعبر بدقة عن التاريخ القضائي للأفراد، وتُعد مرجعًا حاسمًا في تحديد مساراتهم القانونية المهنية، والإدارية. فهو، بذلك، أداة قانونية وإدارية تعكس ماضي الأشخاص وتؤثر بعمق في حاضرهم ومستقبلهم. غير أن هذا السجل، بما يحمله من طابع رسمي، يكتنفه تعقيد قانوني بالغ عندما يتعلق الأمر بالأحكام الزجرية الصادرة عن جهات قضائية أجنبية ضد مغاربة مقيمين بالخارج.

هذه الإشكالية، التي بقيت إلى حد بعيد خارج دوائر النقاش التشريعي العميق، كانت محور دراسة تحليلية دقيقة أنجزها الأستاذ عبد الصمد البردعي، “الباحث في العلوم الجنائية والدراسات الأمنية”، والذي سلط من خلالها الضوء على ما وصفه بـ”أزمة العقوبة الأجنبية” في السجل العدلي المغربي، كاشفًا عن أبعادها القانونية وتداعياتها الواقعية.

مبرزا علاقة هذه المؤسسة في جزئيتها من خلال الضوابط القانونية والتشريعية التي تؤطر التعاون القضائي الدولي في مجال تبادل المعطيات المرتبطة بالسجل العدلي، ولا سيما في المواد من 675 إلى 677 من قانون المسطرة الجنائية، حيث أتاح المشرع إمكانية تسجيل الأحكام الأجنبية الصادرة في حق الأشخاص المغاربة في سجلهم العدلي الوطني أو المحلي، بناءً إما على اتفاقيات ثنائية مبرمة مع بعض الدول، أو على أساس مبدأ “المعاملة بالمثل” بالنسبة للدول التي لا تربطها بالمغرب اتفاقيات مباشرة. وبهذا، فإن وزارة العدل قد تتوصل بحكم أجنبي صادر ضد مغربي مقيم بالخارج، وتقوم بإدراجه في السجل العدلي الوطني أو المحلي، وكأنه صادر عن محكمة وطنية، دون مراعاة لاختلاف الأنظمة القانونية، أو لطبيعة الفعل الجرمي.
ويثار التساؤل الجوهري في هذا السياق: هل من العدل أن يُحرم المواطن المغربي من حقوقه الدستورية، مثل التوظيف أو اجتياز المباريات أو الاندماج داخل مجتمعه، بسبب إدانة صدرت في حقه من بلد أجنبي، من أجل جريمة قد لا يكون لها مقابل في القانون المغربي، أو لربما تجاوزها الزمن والسياق الاجتماعي؟

فضلا عن ذلك تُبرز دراسة الأستاذ البردعي ،أن غياب مسطرة واضحة لتنقيح السجل العدلي من الأحكام الأجنبية، وغياب نص تشريعي صريح يحدد الجهة المختصة بالنظر في طلبات الحذف أو الإلغاء، يُبقي المواطن عرضة لاجتهادات إدارية متباينة أو قضائية لعلها تسد الفراغ المذكور من جهة ، بل ويجعله ضحية لممارسات تعتمد الإدراج التلقائي لتلك الأحكام ضمن البطاقة رقم 3 من السجل العدلي، من جهة ثانية ،دون تحقق أو إشعار مسبق.

وتزداد أهمية هذا الإشكال في ظل دخول قانون العقوبات البديلة رقم 43-22 حيز التنفيذ خلال غشت 2025، حيث يُفترض أن يُعيد هذا التحول التشريعي النظر في كيفية التعامل مع العقوبات الأجنبية، خاصة تلك التي لا تُعتبر جرائم وفقًا للقانون الجنائي المغربي، أو تلك التي صدرت في حق أشخاص عادوا إلى المغرب واستقروا فيه ملتزمين بالسلوك القويم داخل المجتمع، قبل أن يُفاجَؤوا بإدراج تلك الأحكام تلقائيًا في سجلهم العدلي الوطني، بما يحرمهم من فرص الانخراط في الحياة العامة أو من ممارسة حقوقهم الأساسية.

وما يزيد الوضع تعقيدًا هو الازدواج في المعاملة: إذ تدرج العقوبة الصادرة بموجب أحكام أجنبية ضمن السجل العدلي للشخص بحيث لا تخول الحق لهذا الأخير في سلوك مسطرة رد الاعتبار، في حين نجد وعلى خلاف ذلك ان الشخص المغربي الذي صدر في حقه حكم بالإدانه من إحدى المحاكم الوطنية مثله وفي نفس وضعيته يمكن له الحق في سلوك مسطرة رد الاعتبار بشقيه سواء القانوني أو القضائي منه، حسب الأحوال ،كلما توفرت شروط أحدهما القانونية ،وبطريقة سهلة وسلسة تتيح له وتسهم في تنقيح السجل العدلي لذلك الشخص في آخر المطاف، وهو ما قد يضر بمبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون ، وفي ظل غياب تنظيم قانوني واضح لمسطرة رد الاعتبار في هذه الحالات، خلص الأستاذ البردعي إلى ضرورة تعديل التشريع المنظم للسجل العدلي.

مبرزا بعض الإشكاليات العالقة بشأن ذلك، منها أن المشرع المغربي لم يُشر صراحة إلى إمكانية سلوك مسطرة رد الاعتبار، سواء القانوني أو القضائي، بالنسبة للأحكام الأجنبية، ما يُثير تساؤلات جدية حول حدود تطبيق هذه المؤسسة على الحالات التي تصدر فيها الإدانة من طرف قضاء أجنبي ، موضخا أن غموض النصوص القانونية، وتضارب الاختصاصات، وغياب آليات فعالة للطعن أو التصحيح، كلها عوامل تجعل من السجل العدلي، في هذه الحالة، أداة تُمارَس بها عقوبة مزدوجة على المواطن المغربي العائد من الخارج: مرة بحكم القضاء الأجنبي، ومرة أخرى بسكوت التشريع الوطني.

ودعا الأستاذ البردعي إلى تدخل تشريعي مستعجل يسد هذا الفراغ، ويُقر صراحة بحق المتضررين من الأحكام الأجنبية في المطالبة بتنقيح سجلاتهم العدلية، مع تحديد المساطر والجهات القضائية المختصة، تحقيقًا لمبادئ العدل وصونًا للحقوق، وتماشيًا مع مقتضيات الفصل 117 من دستور سنة 2011، الذي أوكل إلى القاضي “مهمة حماية حقوق الأفراد والجماعات، وحرياتهم، وضمان أمنهم القضائي”.

وإلى حين تحقق هذا الإصلاح التشريعي، تظل السلطة القضائية، في نظر الباحث، الضامن الوحيد لرد الاعتبار للأشخاص الذين أساء إليهم النص أو ضبابيته، في انتظار أن تلتفت السلطة التشريعية إلى هذا الخلل وتمنح المواطنين المقيمين بالخارج الضمانات القانونية الكفيلة بحماية كرامتهم وحقوقهم.

وبالنظر إلى أن المحاكم الابتدائية لها الولاية العامة للبت في جميع القضايا، ما لم ينص القانون صراحة على خلاف ذلك، فإنه يُمكن للمتضرر أن يتقدم بطلب أمام رئيس المحكمة، في إطار مقتضيات المادة 148 من قانون المسطرة المدنية المتعلقة بـ” القضايا المبنية على طلب”، والتي حدد المشرع شروطها وإجراءاتها بشكل دقيق،في سلوك تلك المسطرة، وهو ما أكدته محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في أحد قراراتها، معتبرةً أن “اختصاص رئيس المحكمة في نطاق الفصل 148 من قانون المسطرة المدنية هو اختصاص واسع، متى لم يكن في الأمر ما يمنع ذلك قانونًا…”.
وفي الختام خلص الاستاذ البردعي

أنه، يمكن للشخص المعني بالأمر أن يتقدم بطلب إلى السيد رئيس مصلحة كتابة الضبط، قصد تمكينه من بطاقة السجل العدلي رقم 3، التي يجب ألا تتضمن الإشعارات المرتبطة بالحكم الأجنبي، استنادًا إلى الفقرة الأخيرة من المادة 677 من قانون المسطرة الجنائية، مع الاكتفاء بتضمين ذلك الحكم في البطاقة رقم 1 أو رقم 2، حسب الحالات.

غير أن الإشكال الحقيقي يظل في مدى أحقية المواطن في أن يكون سجله العدلي خاليًا من أي تضمينات تؤثر على مصالحه المدنية والقانونية، خاصة عندما يسعى للاستفادة من حقوقه السياسية أو المدنية، أو يرغب في اجتياز امتحان، أو الترشح لمباراة، أو الالتحاق بوظيفة عامة أو عسكرية، في بلده الأصلي، وهو ما قد يُشكل عائقًا فعليًا أمام تحقيق تلك الغايات.

ومن منظور قانوني محض، واستجابةً للتساؤلات المثارة، فإنه يُمكن للمواطن الذي صدر في حقه حكم أجنبي بالإدانة، سواء من أجل جناية أو جنحة، وبصرف النظر عن نوع الجزاء الصادر (عقوبة سالبة للحرية أو عقوبة بديلة)، أن يسلك مسطرة حذف مضمون السجل العدلي الخاص به ، استنادًا إلى الحالة الثالثة من الحالات المنصوص عليها في المادة 663 من قانون المسطرة الجنائية.

وفي ظل غياب نص تشريعي صريح يحسم هذه الإشكالية، خلص الباحث في دراسته بقوله إد يظل اللجوء إلى السلطة القضائية السبيل الأنجع، من خلال تمكين المتضررين من عرض نوازلهم أمام المحاكم المختصة، قصد حماية حقوقهم، انسجامًا مع مقتضيات الفصل 117 من الدستور، الذي نصّ على أن “القاضي يتولى حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون”.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...