في زحمة الحياة اليومية، حيث تُغمر المجتمعات بتيارات التكرار والروتين، وتُدفع الأجيال الصاعدة إلى مراكب بلا شراع، يبرز سؤال عميق يُلح على الضمائر: ما الذي يجعل الإنسان متمسكًا بالحياة؟ ما الذي يمنحه القدرة على المقاومة، والتطوّر، والمضي قُدمًا رغم العقبات؟ الجواب، في جوهره، لا يخرج عن كلمة واحدة: الهدف.
منذ السنوات الأولى في حياة الطفل، تبدأ ملامح الطموح بالتشكل، غالبًا بشكل عفوي أو عابر. طفل يحب الكرة، وآخر يميل للرسم، وثالث ينشد القصص. هنا، تتجلى مسؤولية الأسرة والمدرسة والمجتمع، ليس فقط في اكتشاف هذه الميول، بل في رعايتها وتحويلها إلى مشروع حياة، إلى “هدف” حقيقي يمنح الطفل دافعًا للاستمرار، ويحفظه من الضياع في سنوات لاحقة قد تغيب فيها البوصلة وتكثر فيها الإغراءات.
الهدف ليس رفاهية فكرية، بل هو ضرورة وجودية. هو ما يمنح الإنسان سببًا ليوقظ طاقاته، ويدفعه لاكتشاف قدراته، ولتجاوز الإحباطات والمصاعب. عندما يُغرس الهدف في الطفولة، يُصبح بمثابة البوصلة التي تُوجّه السلوك، وتُشكّل الشخصية، وتُهذّب العواطف.
فالأطفال الذين يُربّون على مشروع شخصي، سواء رياضي، فني، علمي أو ثقافي، يتميزون بثقة أعلى في النفس، وبقدرة أكبر على التركيز والانضباط والصبر.
لكن الهدف لا يُمنح، بل يُكتشف ويُبنى. دور المحيط هنا محوري، إذ يتطلب الأمر بيئة تُشجع على التجربة، وتُقدّر الجهد، وتحتفي بالتنوع. ليس ضروريًا أن يكون الهدف ضخمًا أو استثنائيًا، فقد يكون بسيطًا لكنه مُلهِم. طفل يجد في كرة القدم متعة الالتزام والعمل الجماعي، أو آخر ينمو بين صفحات الكتب فيتخذ من المعرفة ملاذًا وشغفًا. المسألة ليست في طبيعة الهدف، بل في صدقه واستمراريته.
والمؤسف أن كثيرًا من الأطفال يُحرَمون من هذا الحق، لأن المجتمعات تُجبرهم أحيانًا على اتباع أهداف لا تشبههم، أو تفرض عليهم أنماطًا لا تُناسب طبيعتهم. هنا، يتحوّل الهدف إلى عبء، ويتحوّل الإنسان إلى نسخة باهتة من طموحات الآخرين. ولذلك، فإن التربية الحقيقية هي التي تُساعد الطفل على أن يصنع هدفه بنفسه، لا أن يُقلد ما يُراد له أن يكون.
في عالم يتسارع بلا توقف، يصبح وجود هدف واضح في حياة الإنسان هو حبل النجاة الذي يربطه بذاته. ومع مرور السنوات، لا يعود الهدف مجرد وسيلة للنجاح، بل يتحوّل إلى المعنى ذاته. إنه ما يجعل المرء يشعر بأن لحياته قيمة، وأن وجوده لم يكن عابرًا.
الذين يملكون هدفًا منذ الصغر، لا يسألون الحياة أن تعطيهم، بل يدخلونها ليضيفوا إليها. وهم، غالبًا، لا يُضيّعون وقتهم في مقارنة أنفسهم بالآخرين، لأنهم مشغولون بتحقيق رؤيتهم الخاصة، بخطوات ثابتة لا تخلو من التحديات، لكنها لا تنقطع أبدًا عن النبض الداخلي للمعنى.