هناك أماكن في العالم تبث فيك شعورا بالوقوف على عتبة حلم؛ تستنشق عبيره، وتتأمل سحره، لكن فجأة تدرك أن هذا الحلم لم يكتمل، كما لو أن يدًا سحرية أوقفته في منتصف الطريق. أحد هذه الأماكن يتواجد بمدينة مهدية، حيث يلتقي البحر بالسكون، وتتداخل أمواج الأطلسي مع أنفاس المدينة، في مساحة رحبة تمتلك كل المقومات لتصبح تحفة سياحية، في حين تُعامل للأسف وكأنها وباء سيفتك بكل من يقترب منه.
هذا المكان يتميز بإطلالة لا تقل عن مشهد سينمائي أخاذ، يقع خلف “باشوية مهدية”، ويحده شارع يفصله عن إقامة فاخرة تعكس وجهًا آخر من التناقض الصارخ، فهو مقصد لعشاق البحر، وهواة التأمل، وباحثي الإلهام، لكن واقعه لا يعكس شيئًا من هذه الجمالية؛ من المفترض أن يشكل متنفسًا حضريًا بمواصفات راقية، لكنه للأسف لا يعدو كونه ساحة مهملة تحولت إلى موقف سيارات مقابل خمسة دراهم، بلا إنارة، ولا ممرات مهيأة، ولا مرافق، فقط رمال تمتد تعكس غياب الرؤية والاهتمام من الجهات المسؤولة.
هذا المكان ليس إلا حلما ضائعا بين الإهمال والمراقبة المشددة؛ فأن تزور المكان ليلاً هي بمثابة رحلة تتأرجح بين الحلم والخيبة. تخرج من سيارتك، تتنفس الهواء المشبع بعبق البحر، لكن إحساسك سرعان ما يختلط بين الدهشة والدهشة المضادة، فتطرح السؤال المشروع؛ لماذا هذا المكان، الذي يمتلك كل المقومات ليكون لوجهة سياحية راقية، لا يزال رهين العشوائية؟ أين التخطيط؟ أين الرؤية التي تحوله إلى فضاء يستقطب الزوار بدل تركه بين مخالب النسيان كنقطة عابرة في خريطة؟
الغريب في الأمر أن غياب التجهيزات لا يعني غياب الرقابة، فمن المفارقات العجيبة أن المكان يشهد دوريات أمنية مكثفة، وكأن خطرًا غير مرئي يترصد رواده، بينما الخطر الحقيقي هو هذا الإهمال الذي يلتهمه بصمت، فكيف يمكننا أن نستوعب هذه المفارقة؟ كيف يُترَك هذا الموقع ليكون مجرد موقف سيارات مؤقت بمواعيد مزاجية، بينما مدن أخرى تستثمر في كل شبر يطل على البحر، فتحوله إلى منتزهات ومناطق سياحية مزدهرة؟
نحن على أعتاب سنة 2030، السنة التي من المفترض أن تكون نقطة تحول في مسار المغرب، على اعتبار أن الطموحات كبيرة، والرؤية واضحة: المغرب وجهة عالمية للسياحة والاستثمار، ومحطة جاذبة لزوار من مختلف القارات. لكن كيف نصل إلى هذا الهدف ونحن لازلنا نتعثر في أبسط الأمور؟ كيف نستعد لاستقبال العالم، بينما نترك أماكن مثل هذه في قبضة الإهمال، بلا تطوير، بلا تخطيط، بلا لمسة إبداعية؟
في عصر الصورة والفيديوهات المتداولة على وسائل التواصل، لم يعد الإهمال شيئًا يمكن إخفاؤه، فالسياح الذين سيحجون إلى بلادنا لن يكتفوا بزيارة المدن الكبرى، بل سينتشرون في كل زاوية، يوثقون كل شيء، ينقلون الصورة كما هي، دون تجميل أو تعديل، فإما أن نقدم لهم مشاهد مبهرة تعكس الوجه الحقيقي لمغرب المستقبل، أو نتركهم يفضحون نقاط ضعفنا، ويحولونها إلى مادة ساخرة في الفضاء الرقمي.
المغرب ليس مجرد مدن كبرى ومشاريع ضخمة، بل هو كل زاوية تحمل إمكانيات لم تُستغل بعد. في مهدية، نحن لا نطالب بمعجزة، بل فقط جرعة من الإرادة، قليل من التخطيط، بعض التجهيزات الأساسية، رؤية تجعل من هذا المكان وجهة سياحية حقيقية بدل أن يظل مجرد بقعة رملية تعكس لامبالاة المسؤولين.
هذه ليست مجرد قضية جمالية، بل هي جزء من معركة أكبر، معركة تجعلنا نقرر أي مستقبل نريد لهذا البلد. هل نبقى رهائن للقرارات البطيئة، أم نبدأ في رسم ملامح الغد بأيدينا؟ مهدية يمكن أن تصبح نموذجًا، نقطة انطلاق نحو مغرب أكثر إشراقًا، لكن الأمر يتطلب تحركًا قبل فوات الأوان.