حين تقترن الرؤية بالتجربة، ويتلاقى الطموح مع الإرادة، تولد لحظات فارقة في مسار المدن، وها هي مدينة القنيطرة على موعد مع واحدة من هذه اللحظات التاريخية، من خلال حدث استثنائي وغير مسبوق يتمثل في “مهرجان القنيطرة”، المزمع تنظيمه بين 23 و25 من شهر غشت الجاري، والذي لا يأتي فقط على شكل احتفال، بل كرسالة واضحة بأن القنيطرة بدأت تكتب فصلاً جديداً في كتاب تألقها.
لا يمكن فهم هذا الحدث دون التوقف عند شخصية كان لها الأثر الكبير في بلورة هذه الدينامية الجديدة: عبد الحميد المزيد، عامل إقليم القنيطرة، فبصماته التنموية ليست جديدة، ويكفي أن نذكر ما تحقق في إفران، حيث تحولت المدينة بفضل رؤيته إلى وجهة دولية للفن والإبداع والثقافة من خلال مهرجان إفران الدولي، الذي أعاد رسم صورة المدينة في وعي المغاربة والسياح على حد سواء. واليوم، يحلّ المزيد بمدينة القنيطرة حاملاً معه نفس الرؤية، وذات الإيمان بأن المدن لا تتطور إلا حين تُمنح فرصة لتُظهر جوهرها الحقيقي، وهو ما يفعله عبر هذا المهرجان الذي لن يكون مجرد فعالية موسمية، بل خطوة أولى نحو إشعاع وطني وعالمي للقنيطرة.
لا يقتصر المهرجان على الجانب الغنائي أو الترفيهي، بل تم تصميم برنامجه ليُرضي كافة الأذواق والفئات، ويعكس هوية القنيطرة المتنوعة وروحها الشبابية والرياضية والثقافية، إذ يضم حفلات فنية لفنانين كبار، إلى جانب فرق فولكلورية محلية تُعيد إحياء التراث وتمنح الفعالية طابعاً أصيلاً، كما تشمل البرمجة بطولات في كرة السلة والفوتسال تُلهب حماس عشاق الرياضة، إلى جانب عروض ركوب الأمواج بشاطئ المهدية التي تمرّر رسائل بيئية وسياحية، علاوة على عروض الفروسية التي تضيف بُعداً عربياً-أمازيغياً لهوية المدينة، وبرامج خاصة للأطفال والعائلات، بما يجعل من المهرجان فضاءً شاملاً يليق بمدينة بحجم وتاريخ القنيطرة.
وقد تم توزيع هذه الأنشطة والفعاليات على عدة فضاءات استراتيجية بالمدينة، في مقدمتها ساحة محطة القطار القنيطرة التي ستشكل القلب النابض للمهرجان، بالإضافة إلى قاعة الوحدة، وحلبة الفروسية، وشاطئ المهدية، هذا الامتداد المكاني يعكس التوازن في توزيع النشاطات، ويضمن مشاركة أوسع لساكنة المدينة وزوارها.
ولم يكن تنظيم هذا الحدث الكبير ممكناً دون دعم صريح وواضح من الجهات المعنية، حيث ساهمت وزارة الداخلية بالحصة الأكبر من الغلاف المالي المخصص للمهرجان، إلى جانب مساهمة جماعة القنيطرة وعدد من المستشهرين، في إشارة إلى إيمان الجميع بأن هذه المدينة تستحق الأفضل، وأن الاستثمار في الثقافة والسياحة هو استثمار في الإنسان والمستقبل، كما تم إشراك جمعيات محلية متعددة، كلٌّ حسب تخصصه ومجال تدخله، سواء في التنشيط الثقافي، الرياضي، البيئي أو الفني، في خطوة تعكس الرغبة في جعل الحدث قريباً من الناس، ومنسجماً مع روح المدينة ونسيجها الجمعوي.
الرهان الحقيقي لهذا المهرجان لا ينتهي في اليوم الثالث، بل يبدأ معه، فالأفق هو أن تتحول القنيطرة إلى وجهة سياحية وطنية بارزة، وأن تُستثمر مواردها البشرية والطبيعية والتاريخية في خلق دينامية اقتصادية واجتماعية وثقافية دائمة، فالمهرجان هنا ليس احتفالاً عابراً، بل هو إعلان رسمي عن دخول المدينة مرحلة جديدة من الوعي بذاتها، واسترجاع لمكانتها التي همّشتها ظروف وتراكمات سابقة، والرسالة موجهة للجميع: القنيطرة قادمة وبقوة.
حين تتحد الرؤية مع القرار، وتُمنح المدن فرصة لتتكلم بلغة أبنائها، يحدث الفرق، و”مهرجان القنيطرة” هو بداية لمرحلة يُعاد فيها تعريف المدينة أمام المغاربة وأمام العالم، فالمدن لا تصبح عظيمة بمحض الصدفة، بل حين تخطو بخطوات تُوجّهها روح الطموح، وتُصغي لصوت ساكنتها، وتُبدع في طرق استثمار هويتها، والقنيطرة بدأت تخطو بثقة، ولن تتوقف، فكونوا جزءاً من هذا التحول.