بلجيكيون يرفضون “ميراث الديون” في ظل تحولات اقتصادية عميقة

تشهد بلجيكا ظاهرة لافتة تعكس تبدلًا تدريجيًا في نظرة المجتمع للميراث، لم تعد التركة تُعد تلقائيًا مكسبًا مضمونًا، بل باتت تخضع لميزان دقيق من الحسابات، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة.
فخلال الأشهر الستة الأولى من عام 2024، قرر أكثر من 26 ألف شخص التخلي طوعًا عن حقهم في الميراث، بحسب بيانات اتحاد الموثقين البلجيكيين (Fednot)، في مؤشر على تصاعد ظاهرة “رفض التركات السلبية” كخيار عقلاني، يتجاوز الطابع العاطفي أو التقليدي المرتبط بالميراث.

لطالما ارتبط الميراث بالاستقرار، والاستمرار الرمزي للعائلة عبر الأجيال. لكن في ظل تراكم الديون الشخصية، وارتفاع معدلات الاستدانة لدى كبار السن، أصبح كثير من الورثة يواجهون معضلة: هل يرثون فعلاً “ثروة”، أم أعباء مالية متوارثة؟
ويتيح النظام القانوني البلجيكي حاليًا للورثة خيارًا عمليًا: التنازل المجاني عن الميراث عبر الموثق، دون الحاجة للجوء إلى القضاء، ما سهّل اتخاذ القرار وخفّف من عبء الإجراءات.

وفق الأرقام، بلغ عدد التنازلات المجانية عن الإرث في النصف الأول من 2024 نحو 26,112 حالة. وفي عام 2023، وصل العدد إلى 58,459 حالة، منها نحو 30 ألفًا في النصف الأول. ورغم التراجع الطفيف مطلع هذا العام، يظل الاتجاه العام تصاعديًا، في دلالة على أن هذا السلوك أصبح جزءًا من “عقلنة القرار المالي” لدى الأفراد، وخصوصًا في ظل الأزمات المعيشية وارتفاع تكاليف الحياة.

أمام الوريث اليوم ثلاث طرق للتعامل مع التركة: القبول الكامل بكل ما تحتويه التركة من أصول وديون، أو التنازل النهائي عبر توثيق رسمي لدى كاتب عدل، ما يمنع مطالبته بأي التزامات، أو القبول المشروط بعد الجرد، وهو خيار يتسم بالحذر حيث يتم تقييم التركة بالكامل قبل اتخاذ القرار. ويتيح القانون البلجيكي التنازل دون تكاليف إذا كان صافي التركة لا يتجاوز 6,093.20 يورو، بشرط توثيقه رسميًا.

يرى سيلفان بافييه، الموثق والمتحدث باسم notaire.be، أن هذا التوجه يعكس وعيًا جديدًا لدى العامة، حيث أصبح كثيرون يدركون أن الميراث ليس إلزاميًا، وأن رفضه حق قانوني يمكن ممارسته دون تعقيد. وساهمت الحملات التوعوية، إلى جانب التحولات الاقتصادية والاجتماعية، في إعادة تشكيل نظرة الأفراد إلى الميراث: من كونه تركة لا تُناقش، إلى كونه قرارًا قابلًا للفحص والتقييم.

ما يجري في بلجيكا ليس مجرد تبدّل في إجراء قانوني، بل تحوّل أعمق في الوعي الاجتماعي. في عالم تتغير فيه القيم الاقتصادية وتتزايد فيه الأعباء، لم يعد الميراث نهاية لقصة عائلية، بل قد يكون بدايتها — أو بداية عبء طويل يمكن تفاديه بقرار واحد واعٍ.

 

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...