حين تتحوّل الترجمة إلى تهمة بالسحر والشعوذة: مأ..ساة سيدة جزائرية بين أسوار المقبرة

لم تكن تتخيل أن وقوفها داخل مقبرة في إحدى المدن الجزائرية، وهي تهمس بآيات قرآنية مترجمة إلى اللغة الفرنسية، سيحوّل يومها الهادئ إلى كابوس علني تتصدر فيه منصات التواصل الاجتماعي وتُساق بوجه مرفوع إلى المحكمة بتهمة السحر والشعوذة. السيدة الجزائرية المنقبة، المقيمة في البلاد، كانت تنتظر ابنتها الصغيرة داخل المقبرة، ممسكة بمصحف مترجم إلى الفرنسية، تمعن النظر في صفحاته، وتقرأ في تأمل وصمت، لكن نظرات مجموعة من الأشخاص الذين صادفوها هناك لم ترَ ما رأته هي، بل كخيلوا رواية موازية ألبسوها ثوب الغرابة والريبة، سرعان ما تحولت إلى اتهام مباشر بممارسة أعمال سحرية في مكان عام.

هكذا وُلدت القضية، لا من فعل جنائي مثبت، بل من تفاعل اجتماعي مشحون بالتصورات المسبقة والخوف من المجهول، ومن طقوس بات المجتمع الجزائري، كغيره من المجتمعات المغاربية، يربطها تلقائيًا بالشعوذة حالما تقع في سياقات لا يفهمها أو تخالف المألوف. التهمة انطلقت شفهيًا، ثم تطورت إلى تبليغ، فإيقاف مؤقت، فالوقوف أمام القضاء. وبينما تدافع المرأة عن براءتها مؤكدة أن الأمر لا يعدو قراءة قرآن بلغة تفهمها، وأن وجودها في المقبرة لم يكن استثنائيًا ولا مشبوهًا، تمسّك خصومها برواياتهم، مدعين أن ما شاهدوه لا يُفسَّر إلا بطقس شعوذة.

القضية اليوم أمام المحاكم، والملف مفتوح على أسئلة أكثر عمقًا من مجرد واقعة فردية. فهل تُعد الترجمة قرينة على النية السيئة؟ وهل أصبحت اللغة الفرنسية، وهي إحدى اللغات الرسمية في الجزائر، سببًا كافيًا لزرع الشكوك في سلوك ديني؟ ثم هل بات الخوف من السحر مبررًا لانتهاك الحريات الفردية؟ على وقع هذه التساؤلات، يجد القضاء نفسه مضطرًا إلى التوفيق بين طمأنة المجتمع ومخاوفه من جهة، وحماية الأفراد من وصمة أخلاقية واجتماعية قد تلاحقهم مدى الحياة من جهة أخرى..

تبقى الكلمة الفصل بيد العدالة. فإما أن تثبت أن السيدة كانت بالفعل تمارس طقسًا محظورًا، وإما أن تُبرئها وتضع حدًا للاتهامات المتسرعة التي تُطلق دون تثبّت، وتُرسّخ بذلك مبدأ أن العبادة، حتى وإن قُرئت بغير العربية، لا يمكن أن تتحول إلى جريمة. هذه الحادثة، مهما كانت نتيجتها، تفرض علينا جميعًا إعادة التفكير في الحدود بين الخوف المشروع والظلم المغلف بالحذر.

لا تقلّ الصدمة التي هزّت منصات التواصل الاجتماعي عن تلك التي عاشتها السيدة الجزائرية المنقبة، فمنذ لحظة تداول أول مقطع مصوّر يوثق الواقعة أو ينقل تفاصيلها، اشتعلت المنصات بحالة من الاستغراب والاستنكار، وتحوّل اسم السيدة إلى وسم رائج تتقاطع حوله الآراء وتتنازع فيه السرديات. البعض رأى في ما جرى اعتداءً سافرًا على الحريات الفردية والتديّن الشخصي، في حين ذهب آخرون إلى تبرير رد فعل المبلّغين بدافع الخوف من تكرار وقائع الشعوذة التي أصبحت، للأسف، مألوفة في بعض المناطق.

فيسبوك، تويتر، تيك توك وإنستغرام، كلها تعيش منذ أيام على وقع هذا الحادث الذي تجاوز كونه مجرد خبر محلي، ليصبح قضية رأي عام تُناقش من زوايا دينية، قانونية، اجتماعية، ونفسية. فبين من يدافع عن السيدة ويعتبر ما حدث “محاكمة شعبية خارج القانون”، وبين من يُحذر من التساهل مع مظاهر “الدجل المقنّع”، وجد الرأي العام نفسه أمام اختبار جماعي للوعي القانوني والتسامح المجتمعي. لقد تحوّلت المقبرة إلى مرآة عاكسة، لا لطقوس غامضة، بل لصراع أعمق بين المخاوف المجتمعية وحرية الأفراد في ممارسة معتقداتهم بهدوء وسلام.

 

 

 

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...