وسط ضجيج الحياة اليومية في قلب فاس، ووسط زحمة العربات المارة والبنايات المتراصة، يطلّ قبر وحيد من أرض ملساء لا تحمل من ملامح المقابر شيئًا. لا شواهد تحيط به، لا سياج يحده، ولا أثر لما كان يومًا مكانًا مزدحمًا بالموتى. وحده القبر قائم هناك، يحمل اسمًا يثير الحيرة أكثر مما يفسّر: “سيدي المخفي”. بين الواقع والأسطورة، يظل هذا الضريح أشبه بندبة في ذاكرة المدينة، لا تندمل، ولا تُفهم تمامًا.
بعيدًا عن الزاوية التاريخية الباردة، يحضر القبر ككائن حيّ داخل نسيج المدينة، كأن الزمن أبى أن يطويه مع ركام الماضي. تحيط به الآن ملامح التمدّن العصري: مرآب سيارات أنيق، بلاط جديد، وترتيبات حضرية متقنة، لكن أحدًا لم يجرؤ على تحريكه من مكانه. هنا، يتوقف الزمن عند حدود الحكاية، وتبدأ ذاكرة الناس في رسم صورة لمكان يرفض أن يُنسى أو يُهمّش.
ورغم كل ما قيل ويقال عن “سيدي المخفي”، فإن ما يبقيه حاضرًا في الوعي ليس دقة الوقائع، بل قدرة الحكاية على البقاء. آلة الحفر التي قيل إنها تعثّرت كلما اقتربت من الضريح، النساء اللواتي يأتين في صمت ليشعلن شمعة، والمارة الذين يرمقونه بفضول متكرر، كل هؤلاء يعيدون رسم معالم قصة غير مكتملة، وكأن القبر نفسه يرفض أن يُفهم أو يُختزل في تأويل واحد.
ما الذي يجعل مكانًا كهذا عصيًّا على النسيان؟ ربما لأنها ليست حكاية عن قبر فحسب، بل عن مدينة بأكملها، عن علاقتها بماضيها، عن كيفية إدماج الغرابة في الحياة اليومية دون أن تفقد توازنها. فاس، المدينة التي احتضنت العلم والروح، لم تجد حرجًا في الإبقاء على هذا القبر وسط مرآب حديث، كأنها تقول: للغموض أيضًا مكانٌ في خارطة العمران.
وبين من يقدّسه، ومن يشكك فيه، ومن لا يعيره اهتمامًا إلا لغرابة موقعه، يظل “سيدي المخفي” علامة استفهام مفتوحة، لا تحتاج إلى إجابة بقدر ما تحتاج إلى الإنصات. ربما تكون المدينة قد نسيت الكثير من قبورها، لكنها اختارت أن تترك هذا القبر يروي، على طريقته، حكاية لا يعرف أحد إن كانت بدأت فعلًا.