في عالم يتغير بسرعة، حيث تحكم السوق قوانينه الخاصة، يصبح السكن اللائق حلمًا يزداد صعوبة تحقيقه بالنسبة لشرائح واسعة من المواطنين، غير أن المغرب، تحت قيادة الملك محمد السادس، يسعى لكسر هذه القاعدة عبر إطلاق برنامج الدعم المباشر للسكن، وهو مشروع طموح يهدف إلى تمكين الأسر المغربية من الحصول على سكن ملائم وفق شروط ميسرة، بعيدًا عن تعقيدات السوق والمضاربات العقارية.
لسنوات، اعتمدت الدولة على تحفيز المنعشين العقاريين عبر إعفاءات ضريبية ودعم مباشر، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إنتاج وحدات سكنية منخفضة التكلفة، إلا أن هذه المقاربة لم تحقق النتائج المرجوة، حيث بقيت الأسعار مرتفعة، وبقيت الفئات محدودة الدخل خارج دائرة الاستفادة الفعلية. اليوم، تغيّرت الرؤية بالكامل، وأصبح التركيز على منح الدعم للمواطن مباشرةً بدلاً من الشركات العقارية.
ووفقًا لهذا البرنامج الجديد، يستفيد المواطنون المغاربة غير المالكين لأي سكن سابق من دعم مالي مباشر يختلف حسب قيمة العقار:
100 ألف درهم للأسر التي تشتري عقارًا لا يتجاوز 300 ألف درهم.
70 ألف درهم للعقارات التي يتراوح سعرها بين 300 ألف و700 ألف درهم.
هذا الدعم، الذي يمكن أن يغطي أحيانًا 50% من ثمن العقار، يمثل نقلة نوعية في طريقة تعامل الدولة مع أزمة السكن، ويهدف إلى تعزيز العدالة الاجتماعية والاستقرار الأسري.
وفي خطوة تعكس التوجه الجديد نحو التحديث، سيتم تدبير هذا الدعم إلكترونيًا بالكامل، فقد أطلقت وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة تطبيقًا رقمياً يمكن للمواطنين من خلاله إيداع طلباتهم وتتبع مراحل الاستفادة، مما يقلل من البيروقراطية ويعزز الشفافية في عملية التوزيع، كما تعهد المجلس الوطني للموثقين بتقديم خدماته بأسعار مخفضة لتسهيل إجراءات شراء العقارات.
ومنذ انطلاقه في يناير 2024، حقق البرنامج نتائج لافتة، حيث تم دراسة أكثر من 37 ألف ملف، وتمت الموافقة على 24 ألف طلب نهائيًا، ما يعني ضخ 1.8 مليار درهم في السوق العقارية، هذه الأرقام تعكس نجاح المبادرة في استقطاب المواطنين، خاصة من الفئات ذات الدخل المتوسط والمحدود.
ورغم إيجابياته العديدة، يواجه البرنامج بعض التحديات، أبرزها عدم وجود عقوبات واضحة لمن يبيع العقار قبل مرور أربع سنوات، ما قد يفتح الباب أمام المضاربات. كما أن التفاوت الكبير في أسعار العقارات بين المدن الكبرى والمناطق القروية قد يجعل الدعم غير كافٍ في بعض المناطق، بالإضافة إلى التضخم وارتفاع أسعار مواد البناء، وهو عامل قد يؤدي إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين رغم الدعم، لكن بالمقابل، فإن تعميم هذه التجربة وتحسين التشريعات المصاحبة قد يجعلها واحدة من أنجح المبادرات الاجتماعية في تاريخ المغرب الحديث.
وإن نجاح برنامج الدعم المباشر للسكن لا يقتصر فقط على الأرقام، بل يرتبط بقدرته على تحقيق الاستقرار الأسري وتقليص الفوارق الاجتماعية، فالحق في السكن ليس مجرد رفاهية، بل هو ركيزة أساسية لضمان العدالة الاجتماعية وتعزيز الشعور بالانتماء والاستقرار.
وقد يكون هذا البرنامج البداية فقط، لكنه بلا شك يمثل تحولًا جذريًا في طريقة تعامل الدولة مع ملف السكن، وهو ما قد يفتح الباب أمام مبادرات أكثر جرأة في المستقبل، لتظل المملكة في طليعة الدول التي تسعى لتحقيق مدن مستدامة وعدالة اجتماعية حقيقية.