توقيع اسمك في لايف.. عندما تتحول الحروف إلى سلعة رقمية

في زمن تتقاطع فيه الفردانية الرقمية مع اقتصاد الانتباه، برزت على تطبيق “تيك توك” مؤخرًا ظاهرة جديدة تتمثل في “لايفات كتابة الأسماء والتوقيعات”، وهي بثوث حيّة يُعرض فيها على المتابعين كتابة أسمائهم بخط مزخرف أو توقيع خاص، في مقابل تفاعل مباشر أو هدايا رقمية.

ظاهريًا، قد يبدو الأمر بسيطًا ومسليًا. ولكن عند التأمل، نجد أننا أمام ظاهرة مركبة تعبّر عن تحولات أعمق في مفهوم القيمة، والهوية، والتفاعل في العصر الرقمي. فكتابة الاسم لم تعد مجرد فعل تواصلي، بل تحوّلت إلى محتوى بصري سريع الاستهلاك، يُنتَج ويُعاد إنتاجه ضمن سياق الترفيه اللحظي. توقيع الاسم، أو كتابته بطريقة “فنية”، يُمنح للمتابع كما يُمنح له “فلتر” على صورته – نوع من الزينة الرقمية التي تُشعره بالخصوصية والتقدير.

الملفت أن هذه اللايفات لا تُبث فقط بدافع المشاركة أو التسلية، بل في كثير من الأحيان تُشترط “الهدايا الرقمية” لكتابة الاسم. فيُطلب من المتابع إرسال “وردة” أو “نجمة” ليحصل على توقيع خاص، ما يُحول الفعل البسيط إلى خدمة مدفوعة ضمن “اقتصاد البث المباشر”. وهذا يطرح تساؤلات حول حدود الاستغلال، خاصة أن جمهور هذه اللايفات غالبًا من اليافعين، الذين قد لا يُدركون تمامًا أنهم يدفعون مالًا حقيقيًا مقابل كتابة اسمهم.

يمكن قراءة هذا السلوك على أنه بحث عن الاعتراف في فضاء رقمي يطغى عليه التزاحم والنسيان. حين يُكتب اسمك على الشاشة، ولو بخط يدوي، فأنت تشعر بأنك “موجود”، أنك “مرئي”، وأن شخصًا ما – حتى لو غريب – قد خصّك بشيء. إنها لحظة إثبات ذات، ولو مؤقتة، يُمكن إسقاطها على مفاهيم أعمق في علم النفس المعاصر مثل “التمركز حول الذات الرقمي” و”إدمان التفاعل اللحظي”.

في حين أن الخط فن أصيل يتطلب مهارات، فإن هذه اللايفات تفرغه من مضمونه الفني والتاريخي، وتُحوّله إلى أداة للربح السريع والتفاعل العددي. وهنا نواجه إشكالية تسليع الفن وتفريغه من المعنى. وليس الخط وحده المتضرر، بل أيضًا ثقافة التقدير الحقيقي للإبداع، التي تُستبدل تدريجيًا بثقافة الإبهار الفوري.

لا يمكننا إنكار أن هذه اللايفات تعبّر عن حاجة بشرية للتميّز والاهتمام، ولكن ما ينبغي التنبه إليه هو تحول هذه الحاجة إلى مصدر لاستغلال خفي، يختلط فيه الترفيه بالربح، والخصوصية بالتكرار. ولعل الحل لا يكمن في المنع أو الرقابة، بل في نشر الوعي الرقمي، وتعزيز حس النقد لدى المستخدمين، خصوصًا من فئة الشباب، ليُميّزوا بين المحتوى الفني، والتسويق العاطفي المموّه بالخط الجميل.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...