في جلسة انعقدت يوم الأربعاء 7 ماي 2025 أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، قدّم وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عبد العزيز المداوي، عرضًا مفصلًا حول الوضعية الراهنة لمنظومة التعليم العالي بالمغرب، كاشفًا عن معالم استراتيجية شاملة للإصلاح تستند إلى تشخيص دقيق للواقع الجامعي، وتستشرف آفاقًا واعدة تهدف إلى الارتقاء بأداء الجامعة المغربية وتعزيز مردوديتها الأكاديمية والعلمية والاجتماعية.
وقد انطلق هذا المشروع الإصلاحي من مرتكزات مرجعية قوية، في مقدمتها التوجيهات الملكية السامية، والمقتضيات الدستورية، والقانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، إلى جانب القانون رقم 00.01 المنظم للتعليم العالي، والرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030، والنموذج التنموي الجديد، والبرنامج الحكومي للفترة 2021-2026، علاوة على التزامات المملكة الدولية وتوصيات المؤسسات الدستورية.
أكد الوزير أن التعليم العالي بالمغرب راكم على مدى السنوات مكتسبات هامة، من بينها التوسع المضطرد في عدد الطلبة، وتنوع العرض الجامعي بين القطاعين العام والخاص، وولوج مفتوح أتاح الفرصة لفئات واسعة من المجتمع، فضلًا عن تزايد جاذبية الجامعات المغربية خاصة لدى الطلبة المنحدرين من دول إفريقية، واعتراف دولي بعدد من الشهادات الوطنية. إلا أن هذه الإنجازات لم تحجب التحديات الجسيمة التي تواجهها المنظومة، وعلى رأسها الاكتظاظ داخل الجامعات وضعف التأطير البيداغوجي، وارتفاع نسب الرسوب والهدر الجامعي، وغياب التوجيه الأكاديمي الفعال، فضلًا عن محدودية إنتاجية البحث العلمي سواء من حيث النشر أو عدد براءات الاختراع.
كما لفت الوزير إلى ضعف التمويل العمومي المخصص للبحث العلمي، حيث لا تتجاوز الميزانية 0,75% من الناتج الداخلي الخام، مقارنة بـ2,2% في فرنسا، إضافة إلى هشاشة البنية التحتية للخدمات الاجتماعية الموجهة للطلبة من سكن وإطعام ونقل.
ولتجاوز هذه الإكراهات، عرض الوزير خطة استراتيجية شاملة تنبني على خمسة محاور مترابطة. يتمثل المحور الأول في إصلاح العرض التكويني، من خلال إحداث مؤسسات جديدة، وتحديث دفاتر الضوابط البيداغوجية، وتوسيع التكوين المستمر، وتعزيز أنماط التكوين بالتناوب، مع تطوير منصات وطنية لتدريس اللغات، وإطلاق مراكز مهنية متخصصة للإرشاد والتوجيه والمواكبة. أما المحور الثاني فيركز على النهوض بالبحث العلمي والابتكار، عبر إعداد استراتيجية وطنية تمتد إلى أفق 2035، وخلق أقطاب جهوية متخصصة، ودعم الباحثين، وتشجيع مساهمة الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج، وإحداث وكالة وطنية خاصة بالبحث العلمي. ويتعلق المحور الثالث بتعزيز التعاون الوطني والدولي من خلال ترسيخ علاقات التوأمة، وتطوير الشهادات المشتركة، والارتقاء بمكانة المغرب الأكاديمية، ولا سيما في القارة الإفريقية وأوروبا، اعتمادًا على شبكة تضم أكثر من 100 اتفاقية تعاون دولي. ويهم المحور الرابع تحسين الحياة الجامعية من خلال بناء أحياء جامعية جديدة، وتوسيع دائرة المنح والخدمات الاجتماعية، وتحديث قانون الأعمال الجامعية، إلى جانب تشجيع الأنشطة الثقافية والرياضية ومأسسة المسؤولية الاجتماعية والبيئية داخل الجامعة. أما المحور الخامس والأخير، فيروم إصلاح منظومة الحكامة عبر مراجعة الهياكل الإدارية والتنظيمية، ورقمنة المساطر والإجراءات، ومأسسة التعاقد بين الدولة والجامعات، وتوسيع صلاحيات الوكالة الوطنية لتقييم وضمان جودة التعليم العالي.
وقد أولى العرض الوزاري أهمية خاصة لمنظومة المنح الجامعية، حيث تم التأكيد على الرفع من عدد المستفيدين الذي بلغ 450 ألف طالب برسم الموسم الجامعي 2024-2025، مع تحسين نسبة الاستجابة للطلبات التي بلغت 93%، واعتماد السجل الاجتماعي الموحد كمعيار وحيد لتخويل صفة “ممنوح”، وإدماج منح جديدة خاصة بطلبة الدكتوراه وبرامج الحركية الدولية. كما تم العمل على ضمان توزيع عادل للمنح على مستوى الأقاليم والعمالات، بما يعزز مبدأ الإنصاف المجالي.
إن ما تضمنه عرض وزير التعليم العالي يعكس إرادة سياسية واضحة في إخراج الجامعة المغربية من عنق الزجاجة، عبر إصلاحات جوهرية تستهدف مجالات التكوين، البحث، الخدمات، والحكامة، غير أن تنفيذ هذه الخطة الطموحة يظل مشروطًا بقدرة الدولة على تأمين الموارد الكافية، وضمان الالتقائية بين مختلف الفاعلين، وتوفير بيئة جامعية محفزة على التميز، قادرة على تخريج كفاءات تواكب تطلعات المجتمع وتنافس في محيط عالمي متسارع التحول.