تعتبر مدينة الدار البيضاء أحد أبرز المراكز الحضرية والاقتصادية في المغرب، لكن ما يميزها حقًا هو تاريخها الإنساني الذي تشكل عبر عقود من الهجرات الداخلية والتجارب المشتركة لأهلها. في مجموعته القصصية “نبض الجموعة”، يعيد الكاتب الطاهر زويتي رسم ملامح هذه الذاكرة الجماعية، مستحضرًا أجواء الأحياء الشعبية التي صنعت روح المدينة.
يغوص زويتي في تفاصيل الحياة اليومية لسكان الدار البيضاء، حيث التضامن والجيرة القوية كانا من السمات المميزة للطبقة العمالية. بين قصص التعاون بين الأسر، والأطفال الذين حلموا بمستقبل مشترك، يقدم الكتاب صورة نابضة بالحياة لمجتمع ظل متماسكًا رغم الظروف الاقتصادية الصعبة. لكنه أيضًا يوثق التغيرات التي طرأت على هذه الروابط الاجتماعية، خاصة مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت معالم الحياة التقليدية في التلاشي.
من خلال هذه الحكايات، ينقلنا الكاتب إلى أيام كان فيها “رأس الدرب” بمثابة مركز للأخبار والتجمعات، حيث كانت القصص تُحاك، والأحداث تُروى بلهجة محلية مفعمة بالحياة. “نبض الجموعة” ليس مجرد مجموعة قصصية، بل هو توثيق أدبي لمرحلة مهمة من تاريخ المدينة، يعكس حنين البيضاويين إلى زمن كان فيه الحي أكثر من مجرد مكان للعيش، بل كان نسيجًا اجتماعيًا متكاملًا.
يذكر أن الكتاب قد صدر عن دار النشر “لبيبك – LabiBook”، وهو دعوة لمحبي الأدب المغربي لاكتشاف جوانب من الدار البيضاء كما لم يروها من قبل، حيث قدمه الإعلامي والمهتم بالقصة القصيرة ناصر امساعد على الشكل التالي:
يدشن الكاتب والمخرج والمؤلف المسرحي الطاهر زويتى تجربته الإبداعية الأولى، من خلال مؤلفه الذي اختار له عنوانا “راس الدرب”، والمتضمن لمجموعة من القصص القصيرة، التي تعد باكورة تجارب حياتية متفردة، ترحل بنا إلى عوالم الطفولة بشغبها العفوي والمراهقة والشباب،وبداية الاحتكاك بالمجتمع وأطيافه…
وأنت تتصفح هذا المؤلف، وتمعن في قراءة قصصه القصيرة والمعبرة، فإنك تقف عند تجربة انفتاح مميزة على كتابة بأسلوب واضح وسلس، وسهل ممتنع في نفس الوقت، لا تخلو من أسلوب هزلي وكوميديا سوداء، تمنح للقارئ صورا ناصعة لواقع معيش،في فترات مختلفة من حياة الكاتب،في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بالأحياء الشعبية لمدينة الدار البيضاء، التي تمثل فسيفساء مجتمعية تعكس تقاليد وعادات من انتقلوا إليها عقب الاستقلال البلاد، وصولا إلى بتجارب حياتية في الزمن الحاضر بتموجاته وتقلباته.
يأخذنا الكاتب في رحلة ممتعة، بدون تذكرة، إلى عالم الطفولة نهاية ستينيات القرن الماضي، وبداية التعلم والتحصيل بالمسيد وسلطة الفقيه والمكانة الرمزية والاعتبارية التي كان يحظى بها داخل المجتمع ولدى العائلات، وما أفرزه ذلك من انعكاسات نفسية على شخصية الكاتب، ثم ينقلنا بأسلوبه الإبداعي الفريد إلى عالم المراهقة، وبداية الوعي بضرورة تحمل المسؤولية للتخفيف من الأعباء المادية عن الأسرة ، والتشبث بكل ما هو متاح آنذاك، رفقة ثلة من شباب الحي المولعين بالغناء والرقص في الحفلات الوطنية والأعراس وغيرها من مظاهر البهجة التي كانت تعرفها الأحياء الشعبية والراقية، دون أن ننسى تلك الرغبة الجامحة لأجيال تلك السنوات في الترحال والسفر ولو بإمكانيات مادية جد متواضعة، لاكتشاف مناطق المغرب.
لا شك أن القارئ المتمعن لهذه المجموعة القصصية سيلاحظ دون أدنى عناء أن خلفيتها تبقى مطبوعة بذلك النسق الإبداعي في بلورة السيناريوهات المسرحية والأفلام القصيرة، التي شكلت المنطلقات الأولى للمؤلف في عالم الفن والإبداع. “ولد البلاد”، “عطش في القرية”، “يوميات أوزود الجميلة”،”سينما الحسنية”،”فطور الفقيه”،”رأس العام الميلودي”………..عناوين من بين أخرى كثيرة تشكل خيوط هذه المجموعة القصصية المميزة التي تقدم لنا نماذج بشرية وشخصيات من المجتمع المغربي، وتحيلنا على أماكن وأحداث عاشتها وخبرتها أجيال متعاقبة، كما كان لها الأثر البالغ على نفسية المؤلف الذي أتحفنا بفصول أول باكورة له في مجال كتابة وتأليف القصة القصيرة، التي نتمنى ألا تقف عند هذه التجربة الأولى.
وفي الختام لا بد من طرح سؤال محوري حول مدى تمكن الكاتب الطاهر زويتى من رفع التحدي في تجربته الأولى لكتابة القصة القصيرة؟على اعتبار أن هذا المجال يبقى من الفنون الأدبية الأكثر انتشارا وشعبية لدى القراء في العالم، لكنه – من جهة أخرى- يبقى الأكثر صعوبة من حيث الكتابة، لكونه ينحو للاختزال مقارنة بالرواية، حيث أن كاتبها ومؤلفها يكون مضطرا إلى تلخيص فكرته الكبيرة والمتشعبة في صفحتين أو ثلاثة، دون الإخلال بالنسق العام أو السقوط في الملل. الإجابة على هذا السؤال نتركها للقراء الكرام والمهتمين بهذا الصنف الأدبي، لتكوين فكرة واضحة عن هذا العمل الأدبي، وتقديم قراءة نقدية بناءة له تكون بمثابة خارطة طريق للمؤلف قصد المضي قدما في تجربة كتابة أخرى في صنف القصة القصيرة أكثر نضجا وإمتاعا.