بسم الله الرحمن الرحيم
بني المغرب على أربع: إسلام أهل السنة والجماعة، مذهب الإمام مالك، النظام الملكي وإمارة المؤمنين.
وأي خلل في أحد هذه الأركان سيختل توازن المغرب وسينهار. وبتماسكها سيبقى المغرب محصنا محافظا على مناعته قويا شامخا يروم الذرى. وما تعرض لها بالهمز أو اللمز إلا مشبوه أو منافق…
لقد ارتضى المغاربة الإسلام عن اقتناع وبصيرة لأن “ما يتوخاه الإسلام من مقاصد لاَقَ المغاربة في طموحاتهم وفي تطلعاتهم، بل هو كفيل بأن ييسر للبشرية طريقها، ويتيح لها من الوسائل والأسباب ما يساعد على اقامة مجتمعات صالحة يسودها ويعمها السلام والوئام”. ولأن المغاربة اقتنعوا أن الحضارة الاسلامية تحتضن وتصون القيم الروحية والاخلاق السامية، وتتطابق مع الفطرة، بينما غيرها ينأى عن التعاليم الالهية ويتنكر للقيم لينشر الرذيلة والميوعة.
لقد استوعب الإسلام أعراف وتقاليد المغاربة والتي لا تختلف ولا تتعارض مع مقاصده فأصبحت فكرا مغربيا صميما، وهي، وكما يقول علال الفاسي، في مظهرها الحالي المغربي تمثل مدرسة خاصة فيها من الاختيارات والاستحسانات واعتماد المصلحة ما يجعلها قابلة للثبوت والاستمرار.
أولا: إسلام أهل السنة والجماعة: منذ دخول الفاتحين إلى المغرب ونشر الدين الجديد، أرسوا معه قيم العدل والكرامة في أعماق هذه الأرض المباركة، فأخذ الإسلام ينتشر ويترسخ ويتوطد بين ربوعه، فأقبل عليه المغاربة حبا فيه، لِما لمسوا فيه من عدل ومساواة، بل لأنهم تأكدوا أنه دين الله ودين الحق، وأنه لم يأت لاستغلالهم أو لإخضاعهم بالقوة أو بغيرها. وكذلك، لِمَا رأوا فيه من تطابق مع وضعهم الاجتماعي والسيكولوجي والسياسي وحتى الاقتصادي. ولأنهم في عمقهم لا يقبلون بالأمر الواقع، ولا أن تفرض عليهم الأمور فرضا. فأقبلوا على الإسلام اقتناعا ورغبة منهم، بدافع إيماني عميق، واقتداء بهدي رسول الرحمة (ص)، فارتضوه دينا لهم ومنهاجا لسلوكهم ولحياتهم العامة والخاصة. ولنا في قبائل ركراكة خير مثال على ما نقول.
وﻷنهم، ( أي المغاربة)، أصحاب نخوة، كما يقول الجغرافي العربي ابن حوقل حينما زار المغرب في النصف اﻷول من القرن الهجري الثالث، ولهم تقدم في أفعال الخير شهير وحنو بعض على بعض من جهة المروؤة والفتوة ، وإن كانت بينهم الثارات القديمة وضعوها عند الحاجة وطرحوها سماحة وكرم سجية…
فما أن حل المولى إدريس بن عبد الله بالمغرب لاجئا سنة 172 هجرية حتى نصروه نخوة وبدافع إغاثة الملهوف.سيما وأنه من نسل النبي، صلى الله عليه وسلم، فنصروه تباعا للرسول الكريم ونصرة لنسله وآل بيته.
فاحتضنه إسحاق بن عبد الحميد الأوربي، والي العباسيين على المغرب، بل وتنازل له عن الولاية، لشدة حبه لآل البيت، وتقديره لعترة رسول الله. فزوجه كريمته كنزة. وبايعه وسار معه إلى القبائل الأخرى لتبايعه، على طريقة أسلافهم من التابعين والفاتحين المحافظين على إسلام أهل السنة والجماعة. فأسس لخلافة شرعية على سنة الله ورسوله قائمة على البيعة والشورى والوحدة.
وهكذا، استطاع المغاربة أن يتوحدوا حول المولى إدريس وحول الدين الجديد، لما تأكدوا أنه حمل لهم معه، وهو سبط الرسول الكريم (ص)، أصالة الإسلام وجوهره، فتكاتفوا للحفاظ عليه كما تلقوه منه نقيا خالصا فقها وعقيدة وسلوكا، وشكلوا وحدة متماسكة للحفاظ على كيانهم الجديد قصد بناء مجتمع مترابط ومنسجم في إطار إسلام أهل السنة والجماعة.
فنحن أهل المغرب مسلمون سنيون، بالمعنى الذي يشرحه اﻷستاذ عباس الجراري في “دعوة الحق”، أي أننا سنيون في معناها العام الواسع الذي يطلق مقابل الشيعة. أو في معناها الخاص الضيق الذي يقصد به الذين اهتدوا بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسلكوا طريق الصحابة والتابعين في التسليم والتفويض، والبعد عن التأويل، ملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
ومما زاد في تعلق المغاربة بمذهب أهل السنة والجماعة، وزكاه في أنفسهم هو لجوء سبط الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، إليهم والاحتماء بهم وطلب نصرتهم. فتعلقوا به وآووه وعزروه. فخطب فيهم خطبة، اتخذوها نبراسا يهتدون بها ويقتدون على ضوئها، بل دستورا أقبلوا عليه بالإجماع، وكانت هي أساس المرجعية التي سارت عليه كل الدول التي توالت على حكم المغرب…
خطب المولى ادريس فيهم يقول:
“…أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وإلى العدل في الرعية، والقسم بالسوية، ورفع المظالم، والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة، وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد. واذكروا الله في ملوك غيروا والامان خفروا، وعهد الله وميثاقه نقضوا وابني نبيه قتلوا. وأذكركم الله في أرامل احتقرت وحدود الله عطلت، وفي دماء بغير حق سفكت. قد نبذوا الكتاب والإسلام، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. واعلموا عباد الله إن مما أوجب الله على أهل طاعته المجتهدة لأهل عداوته ومعصيته باليد، والأيام… وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقا وغربا، وأظهروا الفساد، وامتلأت الأرض ظلما وجورا، فليس للناس ملجأ ولا لهم عند اعدائهم حسن رجاء، فعسى أن تكونوا معاشر اخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيين، فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين ونصر الله مع النبيين. واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم، وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور. الذي كثر واتره وقل ناصره، وقتل إخوته وأبوه وجده وأهلوه. فأجيبوا داعي الله، فقد دعاكم إلى الله. فإن الله عز وجل يقول: “ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء”. أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا وإياكم إلى سبيل الرشاد”.
لقد عمل الإسلام على قولبة الشخصية المغربية في شكلها الحالي، فألغى الشعور بالقومية أو العرقية أو الدم أو حتى اللغوية، فشكل بالتالي نموذجا نفسيا خاصا بالمغاربة. كما عمل على توحيد القلوب والمشاعر، وكان هو السد المنيع في مواجهة النزعات الشوفينية المنحرفة التي تتحرك بقصد أو بدون قصد، بأيادي أجنبية، والتي تسعى إلى تمزيق وحدتنا وتدمير ترابطنا والتحامنا.
فهذه القاعدة الشرعية التي وضع أسسها المولى إدريس، هي البيعة بين المغاربة وسبط رسول الله (ص)، كانت ومازالت على أساس المرتكزات الإسلامية من التزامات وتعاقدات، مما أرسى روح التضحية والتلاحم بين أبناء الأمة المغربية. وهي التي أدامت عمر الدولة، وضمنت لها الاستمرارية وجعلت منها حضارة عريقة تساوى فيها كل المغاربة، وتآخوا وانصهروا في بعضهم البعض.
وهكذا أصبح للمغاربة مناعة ضد المذاهب الأخرى، وأصبحت قوتهم في سنيتهم، ويرفضون ما سواها، لأنها تضمن لهم الاطمئنان الروحي، والسكينة القلبية وبالتالي الاستقرار الاجتماعي.
ولنا في التاريخ عبرة،فحتى حينما، ظهرت فلول من الشيعة في تارودانت في عهد دولة المرابطين، قام عبد الله بن ياسين وحاربهم حتى فتح مدينتهم عنوة وقتل بها من الروافض خلقا كبيرا، فرجع من بقي منهم إلى السنة. (القرطاس لابن أبي زرع).
أضف إلى ذلك أن علماء الشمال الأفريقي وفقهاءهم وقفوا سدا منيعا ضد تسرب ما من شأنه أن يحدث البلبلة في إيمان المغاربة أو الشك في نفوسهم، دون أن نغفل حب المغاربة لآل البيت وتعلقهم بهم وبأصحاب رسول الله(ص) وخلفائه وأمهات المسلمين وعترة النبي الكريم(ص). وهكذا أصبح المغاربة يحملون راية الشرف والإخلاص، بحيث أصبح لهم الفضل في تأسيس أول دولة علوية في التاريخ علي هدى الإسلام الحنيف الذي أنزل على الرسول الأمين، صلى الله عليه وسلم، على أرضهم المباركة.
المغرب وإمام دار الهجرة
ثانيا: المذهب المالكي: الإمام مالك بن أنس من المدينة المنورة. وهي مدينة الرسول، عليه الصلاة والسلام وهي عاصمة دولة الإسلام الفتية، وهي دار الهجرة. ولأن عمل أهل المدينة ينقل الصورة الصحيحة والحقيقية للمجتمع الإسلامي الأول. فلهذا، كان المغاربة عموما وعلماؤهم خصوصا ما زالوا يرون أن مالكا هو الأقرب إلى روح الإسلام، من علماء العراق أو الشام أو غيرها من المدن العلمية الأخرى من بلاد المسلمين. إضافة إلى التزام المغاربة بالسنة الشريفة وتمسكهم بحديثه، صلى الله عليه وسلم، حول هذا الأمر:” يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”.
وﻷن المغاربة ملتزمون بإلإسلام النقي، إسلام أهل السنة والجماعة ﻷنه يوفر الاستقرار السياسي والطمأنينة القلبية، مما سمح للمذهب المالكي بالانتشار في المجتمع.
انتشر مذهب الإمام مالك بن أنس، في عهد الأدارسة، وقد كان معاصرا للمولى إدريس الأول، وربما، وكما يقول العلامة عباس الجراري، للتعاطف الذي كان بين الإمام مالك والمولى إدريس، لسببين هما:
- إن مالكا يروي في موطإه عن عبد الله الكامل والد إدريس.
ب- إن مالكا كان له موقف من العباسيين لصالح أخ ادريس المسمى محمد المعروف بالنفس الزكية (وهو بالمناسبة جد الحسن الداخل أبو الشرفاء العلويين).
كما أن علماء وفقهاء الشمال الإفريقي كانوا كلهم من أهل السنة والجماعة، ومن أتباع الإمام مالك. فوقفوا ضد تسرب أي من المذاهب الأخرى لهذه المنطقة، وعملوا على إلغاء ومحو كل أثر فيها لغيرها. أضف إلى هذا حب المغاربة لآل البيت وخلفاء رسول الله (ص) وأمهات المؤمنين وصحابته… ويرفضون الطعن فيهم أو المس بهم أو التعرض لهم، إلا بالخير. كما لا يتعرضون للأمويين ولا العباسيين، عملا بما جاء في الآية الكريمة: “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون“. البقرة، آية 133.
فكانت كل دولة من الدول المتوالية على حكم المغرب تعمل على تعزيز المذهب المالكي وتعتبره هو المذهب الرسمي لها مما جعله يتجذر في أعماق المجتمع كل مرة أكثر ويترسخ انتشاره. ﻷن وحدة المغرب المذهبية عامل من عوامل بقاء الدولة واستمراريتها ودوام قوتها.
حتى لما ظهرت بؤر ضالة إحداها للروافض بتارودانت، وأخرى للخوارج بسجلماسة، قضى عليهما المغرب الموحد المسلم السني بقيادة عبد الله بن ياسين رحمه الله. كما قضى على دويلة البرغواطيين المشركة المارقة عن الدين الحنيف، والتي كانت منتشرة ما بين نهري أبي رقراق وأم الربيع. فاجتمع شمل المغاربة، وتوحدت الأمة واجتمع شملها، وعظم أمرها، وبقيت على هدى من الله وعلى إجماع أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، والحمد لله.
ولأن المغاربة مرتبطون بالقرءان والسنة أشد الارتباط، لهذا ارتبطوا بمذهب مالك لأنه يعتبر القرآن هو المصدر التشريعي الرئيسي لمذهبه من جهة، ومن جهة أخرى لأنه يحفظ للأمة أمنها الروحي والسياسي ويصون وحدتها ويجنبها الانزلاقات والاختلافات الضارة.
منذ حلول الإسلام على أرضه، تشكل الكيان المغربي بصفته الحالية. وكأنه كان يفتقد للعنصر المكمل لشخصيته وينتظره، ليتشكل بما هو عليه الآن…فقبل مجيء الإسلام كان الكيان بين مد وجزر مع الفينيقيين أو الرومان أو الوندال، أو ممن سبقهم من أقوام أخرى. وهكذا، وحينما دخل الإسلام إلى المغرب كان بمثابة اللحمة التي جمعت أطرافه، ولملمت أركانه، وكانت هي المبتغى وهي المراد، وهي التي مكنت من تماسك نسيجه الاجتماعي. فتأسست الدولة، وبقيت قائمة إلى يومنا هذا، بحيث أصبحت تعتبر من أقدم الدول، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق، بتواصل دائم واستمرار دون انقطاع، وطيلة 12 قرنا من الزمن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد استوعب الكيان المغربي كل من لجأ إليه، وصهره في بوتقته وصار جزء منه، لدرجة أنك لا يمكنك أن تميزه عن الكل…وبهذا استطاع المغرب الحفاظ على صفائه وعلى قوته وصموده في وجه كل غاز، سيما الأوروبي. وعاش مستقلا شامخا، يتوسع تارة وينكمش أخرى حسب ظروف قوته أو ضعفه. يقوم بدوره في نشر الدعوة الصحيحة القويمة جنوبا، (إسلام أهل السنة والجماعة، ومذهب الإمام مالك)، ويتفاعل مع الظروف السياسة شمالا.
لقد ساهم هذا البناء الجديد للمغرب في كونه غالبا ما شهد استقرارا أمنيا وسياسيا، مما كان ينعكس على استقراره الاقتصادي، وبالتالي حركة تجارية داخلية، ورواجا في الموانئ.
إن المغاربة يعتبرون التمسك بمذهب الإمام مالك ركنا من أركان الالتزام القويم بالدين الإسلامي الحنيف عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي بالمغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة. (صحيح مسلم)
أما ما ساعد على ترسيخ المذهب بالشمال الإفريقي والأندلس، هو رحيل عدد كبير من علمائه وفقهائه إلى المدينة المنورة للأخذ من الإمام مالك مباشرة…” وهكذا ازدهر المذهب بالمغرب، وغدا لشدة اقترانه وارتباطه به مذهبا مغربيا، أو يكاد”. سيما بعد تأسيس جامعة/ جامع القرويين سنة 245 هجرية، بحيث أصبحت مركز إشعاع في المنطقة، وفي شمال وجنوب إفريقيا واﻷندلس.
فكانت السلطة الحاكمة في المغرب في الدول المتعاقبة عليه، تعتمد على المذهب المالكي وتسانده. لأنها تعتبره جزءا من الهوية الوطنية والدينية للبلاد، مما ساعد على توحيد الناس تحت راية واحدة. وفي نفس الوقت تحارب المذاهب المنحرفة التي يمكنها أن تشوش على هذه العقيدة الصحيحة النقية للمغاربة.
ولنا عبرة في ما قام به يوسف بن تاشفين وعبد الله بن ياسين بدولة البرغواطيين الضالة، ومولاي إسماعيل حين قضى على طائفة العكاكزة، والحسن الثاني حين قضى على البهائيين الزائغين (وقد بدأت تظهر فلول للأحمدية وتسرب للجعفرية حاليا)، وعلى الزيتونيين المنحرفة.
وهذا الملك محمد السادس يؤكد في ديباجة الظهير الشريف المتعلق بالرابطة المحمدية للعلماء، حرص إمارة المؤمنين في الحفاظ على نقاء الدين وصفاء الشريعة: ” وقياما بالأمانة المنوطة بنا، بصفتنا اميرا للمؤمنين، وما تستلزمه الإمامة العظمى من واجب حراسة الدين وإقامة شرائعه وشعائره، وتمنيع قيمه ومكارمه مما قد يلابسها من ذرائع الزيغ والانحراف أو شوائب التنطع والابداع.
وهكذا كان دأب الملوك المغاربة وعلمائهم وفقهائهم هو التصدي للمذاهب المنحرفة الضالة ولأصحاب البدع حتى تختفي.
واستكمالا لحلقات مسلسل إصلاح الشأن الديني الذي جعلناه في صدارة اهتمامنا، وثابتا من ثوابت سياستنا، ورغبة في ترشيد عمل علمائنا الأجلاء، وتنظيم جهودهم وتنسيق أعمالهم الخيرة حتى يكونوا جبهة واحدة موحدة وصفا متراصا في مجاهدة الضلال والجحود ومنازلة التطرف والجمود…”.
فاتضح للمغاربة أن المالكية هي الصواب وعين العقل، وأن السلامة في سلامة العقيدة ونقائها، وهو الأخذ بمذهب مالك، واتباع نهجه، وعدم المساومة عليه أيا كانت الظروف.
ومما وجب التذكير به، وزاد في ارتباط المغاربة بالمذهب المالكي هو أنه كان دائما في طليعة نضالهم وجهادهم من خلال الفقهاء والعلماء.
فالدولة المرابطية، وما أعقبها من الدول اﻷخرى، قامت على أكتاف علماء المالكية. وما انتشار الإسلام في إفريقيا ما وراء الصحراء إلا من خلال علماء وفقهاء المالكية. وحتى التصوف المواكب له فيستند على الكتاب والسنة.
وفي العصر الحديث فإن علماء المالكية هم من كان لهم الدور اﻷساس في مواجهة المحنل الفرنسي كالعلامة أبو شعيب الدكالي، ومن سار على نهجه من تلامذته ومريديه كالشيخ محمد بن العربي العلوي، وكذا علماء القرويين من أمثال علال الفاسي وعبد العزيز بن ادريس وبوشتا الجامعي والهاشمي الفيلالي والمختار السوسي رواد الحركة الوطنية الذين كانوا في مقدمة نضال الشعب وكفاحه من أجل حريته واستقلاله وتحرير أرضه.
فالإسلام ووحدة المذهب هي ما جعلت من المغاربة وحدة متواصلة مستمرة طيلة هذه القرون الماضية كلها، وجعلتهم صخرة صلبة صامدة انكسرت عليها أمواج المنحرفين والضالين والخونة سواء من الداخل أو الخارج. وستظل كذلك متحدية أعاصير الزمن وهيجانه مادامت متمسكة بهذه العناصر الأربعة التي سقنا.
إن السر في صمودنا ووحدتنا هو تمسكنا بهذه المبادئ/العناصر التي تؤطرها عقيدتنا السمحة والتي يشرف عليها وعلى رعايتها وصونها وتنقيحها من الشوائب كلما طالتها هو وجود إمارة المؤمنين. وبهذه العزيمة والنية الصادقة بدأ الملك محمد السادس عهده، حيث أرسل رسالة ملكية إلى المجلس الأعلى للعلماء المنعقد في دورته الأولى في عهده، سنة 2000، حيث قال فيها: وإذا كنا قد أعلنا على حرصنا الدائم والمستمر في أكثر من مناسبة على تعزيز الأمن الروحي بمملكتنا، بتحصين عقيدتها وصيانة وحدتها المذهبية، والذود عن ثوابتها وقيمها، فإننا مازلنا نؤكد على إدماج الخطاب الديني في صلب المشروع المجتمعي، الذي نعمل جادين على إنجازه لتحثيث التنمية البشرية المنشودة ورفع تحديات واستشراف المستقبل في ثقة وعزم واطمئنان.
إن العصر الحالي، عصر التكنولوجيا والاختراعات العلمية اليومية، الآنية وفي كل لحظة، لتضفي على العالم تغيرا سريعا وتبدلا لحظيا. مما يعني أننا في مواجهة تحديات فكرية، تشتغل فيها آليات العقل بكل ما أوتيت من قوة ومن جهد في تحد للوقت وللظروف المحيطة والتفاعلات الداخلية والخارجية، لتستوجب منا الحذر والتفاعل والقرارات الاستباقية.
إن تمسك المغرب بهذه المبادئ الأربعة جعلته يقاوم عوامل الزمن والأعداء طيلة القرون الماضية وينتصر عليها، ويبقي هو دائما واقفا، والدولة قائمة، رغم بعض حالات الضعف التي يمر كل جسد، لكنه لم ينهار ولم يسقط وظل صامدا.
كما كانت الدولة التي تأتي عقب اختها لا تستنكف عن الاستفادة من تجارب الدولة التي سبقتها، والسير على خطاها في محاربة أهل الشرك والبدع والضلال من الطوائف المنحرفة، والسير على نهجها في وضع حد للطرق الضالة التي تستغل ضعف الدولة أو استتباب الوضع السياسي فيها لتخرج من جحرها.
وهكذا أصبح المغاربة والدول التي تحكمهم يستميتون في الدفاع عن العقيدة، ويستشهدون من أجلها. ولها يرجع الفضل في صمود المغاربة في وجه العدو الأجنبي. فكان لهم شرف تخليد الملاحم التي خاضوها في هذا الباب ضد المعتدي الصليبي كمعركة الزلاقة، والأرك ووادي المخازن و أنوال أو المقاومة الجهادية من 1912 إلى 1934 ،إلى حرب التحرير وعودة الملك محمد الخامس، إلى المسيرة الخضراء وغيرها من المعارك.
هذه الوحدة المبدئية جعلت من المغاربة والمغرب مهاب الجانب ومخشي البأس.
فالدولة في إطار النظام الملكي ملزمة بالحفاظ على العقد الاجتماعي المبرم بينها وبين الشعب، حسبما تقتضيه العروة الوثقى المبرمة بينهما منذ حلول إدريس الأول وتأسيسه الدولة المغربية.
والنظام الملكي في إطار إمارة المؤمنين، وعلى رأسها الملك (أمير المؤمنين) رمز الدولة، ملزم بتحقيق العدل والمساواة والشورى، بمعنى رعاية مصالح الأفراد والجماعات والحفاظ على حريتها، ثم صون حدودها وعقيدتها.
لو لم يكن النظام الملكي أكثر تعبيرا للوجدان، وأكثر تمثيلا للعقلية، وأقرب إلى النفوس وأدعى إلى الاطمئنان وأصون للمبادىء والقيم الروحية،وأضمن للاستمرار والاستقرار والأمن والسلام، ولظروف التقدم والازدهار، لما استمر طيلة هذه القرون كلها منذ عهد الأدارسة وإلى اليوم عهد العلويين.
ثالثا: إمارة المؤمنين:
من المعلوم أن كل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، ومنذ إدريس الأكبر وإلى الآن تأسست على شرعية دينية. وبالتالي فإن الملك أو أمير المؤمنين هو رمز وحدة الأمة المغربية والمسؤول عن حماية الدين الإسلامي وصيانة القيم التي جاء بها الإسلام.
يعرف الماوردي الإمامة كالتالي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
هكذا يتضح أن الملك أو أمير المؤمنين هو من له سلطة التحكم والسيطرة العامة في الدولة. وبالتالي، وإلى جانب سلطته السياسية، هو المسؤول على ضمان استقرار الوطن، وحقوق المواطنة. وهو في نفس الوقت حامي حمى الملة والدين، ومن هذا يستمد شرعيته الدينية والسياسية.
ولقد تكلم علماؤنا في هذا الباب وحددوا إطار العمل لإمارة المؤمنين في السياسة الشرعية أو ما أصبح يسمى حاليا بالفقه الدستوري، على قواعد وأحكام يتم بموجبها تحديد العلاقة بين الإمام والرعية، وكذا واجبات ومسؤوليات وحقوق كل منهما.
فهو كما يوفر الاستقرار والازدهار، يوفر الأمن الروحي الذي يخلع على المواطن الطمأنينة الروحية والسكينة القلبية، التي تتيح له ممارسة الشعائر الدينية وفق ما أسلفنا من مبادئ، وحتى يتسنى له أن يكون مواطنا صالحا في المجتمع فكرا وقلبا وممارسة.
وفي هذا الإطار، جاء الدستور الحالي (دستور 2011)، في فصليه 41 و42 يحدد مسؤوليات وواجبات أمير المؤمنين، والذي ينص على ما يلي:
الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية.
يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.
ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة.
وفي الفصل42: الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة.
الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.
فالإطار الجامع بين إمارة المؤمنين والرعية هو البيعة. وهو كما يصفه ابن خلدون: هو عقد بين الأمة والإمام.
وبهذا يتوجب الالتفاف حول أمير المؤمنين (الملك)، عن إيمان وعقيدة لحماية بيضة الأمة، والتعبئة المستمرة الدائمة للدفاع عن حوزة الوطن والدين.
نحن في المغرب وانطلاقا من اقتناعنا بهذه المبادئ منذ اليوم الأول لبيعة إدريس الأكبر، نعتبر إمارة المؤمنين استمرارا للخلافة الراشدة وامتدادا لها. لأنها تستمد سلطتها من الكتاب والسنة، ولأنها تستهدف المصلحة العليا للشعب والوطن. ولا أدل على ذلك، حينما تعالت أصوات فيها دس ومكر لتعديل مدونة الأسرة، بل فيها شيء من الجاهلية. فجاء الرد مفحما لأمير المؤمنين بأنه لا يمكنه أن يحل حراما ولا يحرم حلالا. فكان هذا الجواب الشافي كافيا لإخراس الأصوات المغرضة النشاز. والتي تسعى دائما إلى زعزعة الاستقرار العام أو خلخلة أي ركن من الأركان الأربعة التي ذكرنا، كلما أتيحت لهم الفرصة، بغية تقويض النظام كله، بل إلى خرابه، لا لشيء وإنما ترضية لأنفسهم المريضة من أجل هدف رخيص لن يحققوه أبدا.
إن إمارة المؤمنين تكفل للمواطنين حرياتهم العامة سواء كانوا مؤمنين أو غير ذلك، وتجعلهم سواسية كأسنان المشط في الحقوق والواجبات وأمام القانون، أي في المعاملات التجارية أو المالية أو الاستثمارية أو في وظائف الدولة بما فيها الوظائف السامية. وفي ظل كل هذا وفي ظل كل شيء، وبالتالي فإن مؤسسة إمارة المؤمنين توفر للكل التعايش السلمي والأمن في الحياة. وتسعى إلى تحقيق المساواة والعدل، كما تساعد في مواجهة التحديات المعاصرة مع حفظ وحماية منظومة القيم الدينية والثقافية والأخلاقية للأمة.
ولأن تطبيقنا لهذه الأركان الأربعة واحترامها جعل منا دولة تحمل رسالة خالدة دائمة لنا ولجيراننا. دولة للجميع، جميع المواطنين لا فرق فيها بين الناس في الحياة الكريمة والعدالة والمساواة.
هذه العناصر الأربعة هي التي تحفظ الهوية والشخصية المغربية. هي التاريخ والحاضر والمستقبل، هي الأسوار المربعة الحافظة للكيان المغربي والمانعة له من الانحراف والزيغ والتمزيق.
هذه العوامل الأربعة متعاونة امتزجت واختلطت وانصهرت في تكوين وتشكيل شخصية المغرب كدولة، وفي شخصية المواطن المغربي كفرد. وصهرت الشخصيتين في بوتقة واحدة متميزة لتشكل كيانا مطبوعا بالدوام والاستمرار والاستقرار والتآلف والتكاتف والاحترام والثقة المتبادلة بين القمة وباقي الجسد.
تقويض دعائم المغرب الأربعة
إن بنيان المغرب النفسي والمادي مؤسس على هذه الدعائم الأربعة، وهي الكينونة الجمعية للمغاربة، مما جعلهم يفكرون كأمة واحدة متراصة منسجمة. وما إن يمس ركن واحد من هذه الاركان حتى يثور الشعب ولا يهدأ له بال، لأنه مس في كينونته وروحه. وهذا ما يلاحظ على طول تاريخه. وليست أحداث تحرش فرنسا ببلدنا بداية القرن الماضي، وتجرّئها على المس بالركن الرابع للدولة المغربية في 20 غشت 1953، عنا ببعيد.
إن أمير المؤمنين هو الراعي (كلكم راع…الحديث الشريف) وهو الحافظ، وهو الضامن الأول لبيضة هذه الأمة وهو الضامن للأركان الثلاثة الأولى، وهو حارسها والحريص عليها، وهو المكلف الأوحد على حمايتها، وصونها من العبث ومن الشوائب، وكل ما يمكن أن يعلق بها في صيرورتها وحتى في كينونتها…ولقد تأكد هذا في الفصلين 41 و42 من الدستور كما أسلفنا. وهذا يوضح أن مسؤولية إمارة المؤمنين دستورية وشرعية.
إذن، من المفروض علينا أن نزيد في تقوية تمسكنا به وبالأركان الأخرى ليبقى المغرب دائما في الطليعة وفي الصدارة.
المغرب مستهدف بخطر الغزو الفكري والثقافي الساعي إلى تدمير قيمنا الروحية، المتمثلة أساسا في مرجعتينا التي هي هذه الدعائم الأربعة، وبالتالي تشتيت وحدتنا وتدمير صفوفنا كأمة، وتمزيقنا إربا إربا، كما حاول في الماضي عبر القوة المسلحة، ولم يفلح إلا نسبيا( كما يحاول اﻵن عبر وكلائه).
إن هدف الأعداء هو السيطرة على المغرب من خلال احتلال فكره وربط نخبه به ربطا فكريا وثقافيا لتكون له رأس جسر إلينا…وإزاء هذه الإشكالية، فأمير المؤمنين هو المخول الوحيد، والحريص الأول للحفاظ على وحدة صف هذه الأمة وحمايتها من تسرب كل فكر ضال أو منحرف أو سام او مخادع أو مخالف لما أجمع عليه المغاربة كلهم.
فأمير المؤمنين بجمعه للسلطة الدينية (إمارة المؤمنين) والسلطة السياسية، هو درء المفسدة عن المجتمع والوطن من كل ما من شأنه أن يمس الدين بالتحريف أو التطرف أو التشدد، والوطن بالخيانة أو التمرد أو العصيان أو الفتنة أو الفوضى أو تدمير الأخلاق.
فالتفافنا حول إمارة المؤمنين، فرض عين، لأن هذا هو ما جعل ملوك المغرب كلهم ينجحون في تسييرهم للبلاد وفي تدبيرهم
ﻷمور العباد، وحافظوا على تماسك الوطن ووحدته، وأرسوا بذلك التعاطف والتوادد والتراحم بين المواطنين.
إمارة المؤمنين ليست وليدة اليوم أو وليدة دساتير مغرب ما بعد الاستعمار الفرنسي، وإنما هي وليدة اليوم الذي حل فيه المؤسس الأول للدولة المغربية إدريس الأكبر، واستمرت مع كل ملوكها تباعا إلى حد هذه اللحظة، وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
رابعا: النظام الملكي
مع بداية القرن 20، ونتيجة لاتفاقات التآمر التي كانت تعقد بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا أساسا وباقي حلفائهم من الدول الأوروبية، تم إسقاط ثلاث امبراطوريات: الروسية والبروسية والعثمانية (دولة الخلافة) ثم دار الحكم الامبراطورية الشريفة أي المغرب.
تم إسقاط القيصر وتأسيس الاتحاد السوفياتي وجعله يكتسح الدول الاسلامية المحيطة به.
تم إسقاط الإمبراطورية البروسية وتقسيمها الى دول مستقلة عن ألمانيا، وإلحاق بعض أطرافها بدول جديدة أو بدول قائمة كرومانيا. فرنسا وبلجيكا وهولندا والدانمارك وبولندا وليتوانيا وروسيا وجمهورية التشيك .
أما العثمانية فتم إسقاط الخليفة عبد الحميد الثاني، رحمه الله، ومن بعده تم تقسيمها إلى دول عديدة أسسوا فيها مملكات أو جمهوريات واحتفظوا بفلسطين لليهود الصهاينة، فيما بعد.
الإمبراطورية الشريفة (المغرب)، وبعدما كانت مساحتها تتعدى مليونين ونصف(2.5) كيلومتر مربع، جزأوها إلى عدة أقسام بين فرنسا وإسبانيا. ورغم ضراوة وشراسة المقاومة الجهادية التي واجهتهما وحتى حدود سنة 1934، ولم تواجههم في أي بلد آخر، اسطاعوا أن يفككوا أواصرها ويمزقوا وحدتها.
ومن هنا يمكن أن نستنتج أن العناصر الأربعة هي التي كان لها الفضل، بعد الله، في تكتل المغاربة وصبرهم وتراص صفوفهم لمواجهة تلك القوى الغاشمة الاستعمارية، طيلة تلك المدة الطويلة، رغم قلة اليد ونقص العتاد والمؤن. ولكن العزيمة كانت قوية، والاقتناع حاضر بالتلاحم مع إمارة المؤمنين و بقيادتها وبالتنسيق معها، فكانت دائما هي في الطليعة والصدارة للمواجهة المصيرية من أجل الحفاظ على تماسك المغرب وعلى كيانه الضارب في الأعماق.
والآن وفي خضم الصراع القائم المتلاطم المتبادل ما بين الدول الصاعدة émergents اقتصاديا (لنقل متقدمة) والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة، وفيما يبدو خلال مرحلة انتقال سلطة القوة الاقتصادية من الغرب الى الشرق (الصين، روسيا، الهند) ومن يدور في فلكها، وما سيسفر عنه من تصادم عسكري بين هذين الطرفين، تذهب تحت أرجلهم دول صغيرة وكبرى. فأين نحن من هذا؟ وما محل إعرابنا فيه؟
الحكمة والعقل يقتضيان كما تقتضي الروية والدراسة الاستباقية متوسطة وبعيدة المدى، أن يتسلح المغرب بكل ما يمكنه من الحفاظ على كيانه وعلى ذاته، حتى يداوم على مسيرته التنموية وعلى أمنه وسلامته. وأن يعرف من الآن، إن لم يكن من الأمس، أين سيكون موقفه وموقعه، وكيف يتصرف لكل الطوارئ القريبة والبعيدة جغرافيا منه، ومع من يتحالف. بمعنى أين هي مصالحه. وما هي الجهة التي تضمن له ذلك.
فعلى المستوى الداخلي، وهو الذي يهمنا، رص الصفوف بناء على المبادئ الأربعة هي الحل وهي التي أثبتت جدارتها ومصداقيتها ومفعولها على مدى 12 قرنا. لأنها مستوحاة من العقيدة. والعقيدة قيم ومبادئ والتزام وسلوك ومعاملة. وإن تنصروا الله ينصركم.
إن التمسك بهذه الأركان فهو ما جنب المغرب هزات اجتماعية أو ثورات إقليمية أو جهوية، لأن الكل، الشعب (الرعية) وإمارة المؤمنين متشبعون ومتشبثون بهذه القيم… فحتى الحوادث التي وقعت بعد الاستقلال في 1963 أو في 1971، أو 1972، أو 1973، أو حتى قضية بوحمارة (في القرن 19) فلا يعدو كون هذه الأحداث شغبا كسحابة صيف لا يخاف منه على دعائم الدولة ولا ركائزها. فإنما كانت بين قوة الدولة وعناصر محدودة تعد على رؤوس الأصابع، دفعتها رغبات أنانية أو حركتها أيادي خفية أجنبية. وحتى ما شهده المغرب من فتنة و”سيبة” قبل دخول فرنسا للمغرب، فلم يكن تمردا ضد السلطة أو محاولة انقلاب عليها، وإنما كانت يد الاستعمار خلف تلك الفتن تحركها كيفما تشاء من أجل إيجاد ظروف معينة تخدمها قصد إضعاف السلطة المركزية وبالتالي الانقضاض عليها في الوقت المناسب.
فهذه الحركات لم تنل ثقة الشعب أو دعمه، بل نالت سخطه وازدراءه، واعتبرها من مشاغبات الدهماء، وأن ما قام به أمير المؤمنين فهو دفع الفتنة، وهذا حق من حقوقه الشرعية وحق من حقوق وواجب الإمام.
ومن هنا يمكن أن نستنتج ما قاله علال الفاسي، بأن المغاربة لا يقتلون ملوكهم. أي لا يمكن للمؤمنين أن يقتلوا أميرهم. وهذا هو سر الاستقرار السياسي الدائم في المغرب، وسر أمنه وسلامته. وهذا سر بقائه وخلوده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول العقاد في “عبقرية عثمان”إن سمات أمير المؤمنين في القيادة هي العزم والسداد والسرعة مع الحيطة والأناة والرفق في سياسة الأولياء والخصوم.
إذا، فحمية الدين تجعل من أمير المؤمنين رجلا مستبصرا، يستعين بالله في سره وعلنه، ثم بالروية ومشورة المحيطين به من أهل العلم والمعرفة والسياسة، ثم بالإصغاء إلى نبضات قلب شعبه، نظرا لقوة ارتباطه بعقد البيعة الذي في عنقه، والذي يعد تكريسا لإمارة المؤمنين التي تصنع التوازن وتسهر على شؤون الدين والدنيا للمملكة المغربية. ويتبلور هذا التكامل في اﻷحداث التي مر منها المغرب عبر تاريخه، انطلاقا من الزلاقة إلى الأرك، الى وادي المخازن إلى معركة العرائش، إلى حروب الجهاد لمقاومة دخول الاستعمار، إلى معركة الجهاد اﻷكبر والبناء بعد الاستقلال، إلى المسيرة الخضراء، فحرب الاستنزاف التي فرضت عليه طيلة نصف قرن من الزمن، ثم إلى النهضة الواعدة والشاملة، بإذن الله.
إن ما جاء في الدستور الحالي من مقومات مرتبطة بالملك، بمعنى اختصاصاته الدستورية الدينية والقضائية والأمنية والدفاعية والعلاقات الخارجية، إنما هي تفسير وشرح لعقد البيعة بين كل مواطن وأمير المؤمنين.
إن إمارة المؤمنين تضفي على الملك الشرعية الدينية والسياسية، وبالتالي فهو المؤهل الأوحد الذي له الحق والشرعية في تسيير البلد سياسيا ودينيا بمفهومه الواسع، والمستوحى والمستنبط من الدين والبيعة التي تطوق عنقه. بمعنى أن الملك هو أمير المؤمنين الذي يمثل الخلافة والإمامة.
إن المغرب دوحة كبيرة جذورها ضاربة في أعماق الأرض وأغصانها متفرعة وأوراقها باسقة وظلها وارف. الإسلام الحق (إسلام أهل السنة والجماعة) هو الماء الذي يجري في عروقها، في جذعها، في أوراقها. والمذهب المالكي هو ربيعها الدائم، وتربتها الخصبة التي تنغمس فيها جذورها هي النظام الملكي، وراعيها والحافظ على كيانها وصون اخضرارها وتوهجها هو أمير المؤمنين.
المغرب، وما أن استقر فيه الإسلام، حتى أصبح حصنا إن منيعا ضد الأطماع الأوروبية والأجنبية الأخرى، التي ألفت نهبه واستغلال ثرواته لعهود طويلة، وبعد حلول المولى إدريس فيه، لم يعد أرضا ملك اليمين لأوروبا… لماذا؟ “لأن الاسلام جعل منه حصنا من حصونه المنيعة الكبرى، وقلعة من قلاعه المستعصية على العدو، وأن حياة الإسلام في المركز، أي المغرب، والقارة السمراء رهين بوجود الدولة المغربية المسلمة القوية القائمة على الدعائم الأربعة التي ذكرنا.
وإن بيعة الإيمان هي الحبل الرابط بين اﻷمة وإمارة المؤمنين. ولن تقوم للإسلام قائمة، في المغرب، إذا حلت بيعة الايمان من القلوب، وأفل نجمها من العقول وانطفأ نورها من الصدور، وفسخ عقدها بين إمارة المؤمنين والرعية. ولا يتم ذلك إلا بتمزيق أرضه وتفتيت وحدته عبر السماح للوكلاء بالنفخ في مزاميرهم، والسعي إلى تدمير نظام الأسرة والسلوك الاجتماعي فيه، وتغيير قوانينه، وخنق اقتصاده، وزرع المرتزقة والعملاء والمرجفين والتافهين في صفوفه، وتسليط الأضواء الإعلامية عليهم لإحداث البلبلة فيه، وزعزعة أسسه، وخلخلة صفوفه، وتمزيق نسيجه وإشغاله عن أهدافه الإشعاعية،وإعاقة جهوده لقيام نهضته الشاملة وانتصاب قامته مشرئبة نحو الآفاق، وبما يخدم الحضارته الإسلامية الإنسانية.
خلاصة
وهكذا، عندما ترى المغاربة متمسكون بالعقيدة متشبثون بثوابت الأمة ومقدساتها، فإنهم يعنون ما يقولون ويعرفون ما يريدون. لأن في هذا دوام جماعتهم. ففي الوقت الذي سقطت فيه الأنظمة الملكية في مصر وتونس (الداي) وليبيا فيما بعد، ازداد المغاربة تشبثا بنظامهم وعملوا على ترسيخه وتقويته وإدامته. وما ثورة 20 غشت 1953، وما تبعها من مقاومة شرسة ضد فرنسا إلا دليل على ما نقول.
لقد كانت المراكز العلمية تغطي أرض المغرب، والتي شكلت الزوايا ( وهي جزء من هذه المراكز)، المنتشرة على طول المغرب وعرضه، وعلى كامل رقعته التاريخية، مدارس للتكوين العقدي، وللتعليم والتربية على الأصول الحقة للدين الحنيف، وكانت مراكز للتعبئة والانضباط والاستعداد إذا حل بالمغرب أمر يستدعي التجند والطاعة لأمير المؤمنين. ولكن وما إن استتب الوضع لفرنسا بالمغرب حتى أفرغتها من مضمونها وعملت على إضعاف وتحييد هذه المبادئ الأربعة من عمق هذه الزوايا، وشحنتها بالخرافة والشعوذة والشركيات، ثم دافعت عنها وقوتها ومكنت لها من الاستمرارية والديمومة في غيها.
كانت إمارة المؤمنين تستمد جزءا من قوتها من الزوايا التي، كما وأن سبق وذكرنا، تقوم بواجبها التوعوي الديني والسياسي، وتعمل على تمتين عرى الروابط مع إمارة المؤمنين، وتقوي وشائج التماسك الذي تربط بين الطرفين. قبل أن تتعرض للتخريب من طرف فرنسا، وتقودها نحو الاقتناع بالشعوذة والخرافة والارتهان إلى المال الحرام، وإلى ما وصلت إليه الآن من خزعبلات قمة في تكريس الجهل والشركيات والأمراض والانحرافات العقدية والأخلاقية، وإلى القبوريات وما إلى ذلك.
إن هناك غزوا فكريا يشن على العقيدة الإسلامية من الدوائر الأجنبية عبر وكلائها بيننا الظاهرين منهم والمختفين، إلى بعض الصحافة التي تسمي نفسها مستقلة، إلى الجمعيات المشبوهة، وإلى المتطرفين الأيديولوجيين، والاستئصاليين وحتى إلى أصحاب ما يسمى بالأغاني “الهادفة”، إلى….
يمكن لأي شيء في الدولة أن يتغير إلا هذه الأركان الأربعة، فهي صمام الأمان وهي الضمان للمستقبل، وهي الدرع الواقي الذي سوف تتكسر عليه أطماع وتحرشات الأعداء المعلنين والمندسين المجهولين، أو أي شيء سلبي للمغرب.
هذه المبادئ يجب أن تتفاعل أكثر مما هي عليه مع عقل ووجدان وتفكير ووعي كل مغربي. وعلى الدولة أن تقوم بدورها في هذا الباب، لأننا نرى أنها مقصرة فيه. وإن إعلامها يولي أهمية كبيرة للتفاهة والسخافات على حساب الجد وما ينفع التاس، ويقوي لحمة المغاربة وتماسكها.
يقول الملك الحسن الثاني، رحمه الله، في خطاب العرش3 مارس 1964: إن الملكية في المغرب ليست إلا رمزا لكيانه ووحدته، وتجسيدا لطموح شعبه ورغبته…
ويزيد، رحمه الله، في خطاب عيد الشباب يوم الخميس 8 يوليوز 1976: « في تاريخ المغرب، نجد المغرب هو البلد الوحيد الذي لم تعتمد أسره الملكية على طبقة من الطبقات. المغرب هو البلد الوحيد الذي لم يخرج منه النبلاء، سواء نبلاء الحرب، أو نبلاء القلم. المغرب هو البلد الوحيد الذي لم يعتمد ملوكه، من الأدارسة حتى العلويين، على الإقطاعية، ولم يجعلوا من بعض الأسر حبسا أو وقفا على الاقطاعية. ولم يظهر هذا إلا أخيرا عندما توفي مولاي الحسن الأول، وبدأ المغرب يتضعضع، وبدأت أطماع الطامعين، وبدأت الحماية، ثم أصبحت في المغرب أسر وأسماء موقوفا عليها العمل باسم المخزن…»
وعلى نهج والده وجده، رحمها الله، يسير الملك محمد السادس، فيقول في خطابه الذي افتتح به أعمال المجلس الأعلى العلمي في القصر الملكي بفاس يوم 8 يوليوز 2005: “وإننا لعازمون…وفي مقدمتها توفير الأمن الروحي والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية المغربية المتميزة بلزوم السنة والجماعة والوسطية والاعتدال، والانفتاح والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يرتبط منها بمبادئ الإسلام السمحة”.
للمغرب الفضل في نشر الاسلام جنوبا في الدول الافريقية ما وراء الصحراء، وإطالة عمر الإسلام في الأندلس مدة تزيد على أربعة قرون بفضل معركة الزلاقة الخالدة… فالتشبث والعض على هذه الأركان الأربعة لكفيل بإعادة القوة للمغرب ولدوره في تأدية رسالته والإقلاع بها من جديد، كما كان يقوم بذلك بكل قوة وحزم ونشاط وطاقة. الشيء الذي جعله دائما متميزا في شخصيته بكل أبعادها الحصينة والمنيعة. ولكن الفكر الإمبريالي المتربص بالمغرب دائما لا يغفو ولا يتجاهل. لقد قال أحد مفكري ودهاة فرنسا الإستعمارية ومنذ زمن طويل، ولعله اليوطي: “إن رسالة فرنسا في المغرب رسالة يمكن اعتبارها فريدة من نوعها، فهي تقوم أولا على تزييف تلك الاسطورة التي تقول إنه لا أحد يستطيع أن يغير الشخصية المغربية لأنها أقوى الشخصيات في إفريقيا كلها». وهذا ديدنهم باستمرار.
إن عقيدتنا مستهدفة الآن، من الصهاينة والإمبرياليين والشيعة الصفويين والأحمديين، ومستقبلا كما كانت في السابق من بعض الملل والنحل الضالة كالعبيديين (الفاطميين) والعكاكزة والبرغواطيين والبهائيين. ولكن المغرب استطاع أن يواجه ويدمر هذه الجماعات الضالة، بفضل من الله، ثم بفضل تمسكه بالمبادئ الأربعة، وبعزيمة إمارة المؤمنين.
لقد أسس البرغواطيون في غفلة من الزمن دويلتهم والتي كانت تنتشر من نهر أبي رقراق إلى نهر أم الربيع جنوبا، ولم يغن هذا عنهم شيئا لما جاء أسد الإسلام عبد الله بن ياسين صحبة يوسف بن تاشفين فدمراها تدميرا. وكتبت الشهادة لعبد الله بن ياسين رحمه الله، وضريحه الآن في منطقة كريفلة. 40 كلم عن الرباط.
ولنا في التاريخ عبرة. فعندما احتلت فرنسا، المغرب، أول ما بدأ به اليوطي، عراب الاستعمار الفرنسي سنة 1916 هو محاولته تمزيق الشعب المغربي بضرب الدين، فبدأ بتعطيل الشريعة الاسلامية بالأطلس أولا، ثم ليكون هذا تمهيدا لما سيقبل عليه خلفه في 16 ماي 1930، أي الظهير البربري.
فالأمة المغربية، إن هي أرادت أن تبقى وتستمر ـ كما كانت ـ فما عليها إلا أن تتشبث بهذه المبادئ الأربعة ـ في قناعتنا وتصورنا ـ بالإضافة الى تجويد التعليم وجعله يواكب العصر من حيث البحث والتجديد والتأطير.
إن الركائز الأربعة تضمن الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتوفر الأمن الدفاعي، وفي ظلها تتحسن جودة التعليم والصحة والسكن … حتى نبني عقول شبابنا بناء متينا سليما نيرا، وننمي فكرها تنمية صحيحة وهادفة، كي نضمن المستقبل.
فعلى هذه الأركان الأربعة يقوم صرح المغرب وبها يتماسك بنيانه. فهي من صهرت المغاربة وطبعت فكرهم وكانت بالتالي هي الخصائص المميزة لهم. فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.