لم يعد التواصل الاجتماعي في العصر الرقمي شبيهًا بما كان عليه في زمن الرسائل الورقية أو اللقاءات المباشرة، فقد أفرزت المنصات الإلكترونية بيئة جديدة تفرض قواعدها الخاصة، وأعادت صياغة مفهوم “اللباقة” في التفاعل بين الأفراد، وهكذا ظهر ما يُعرف بـ”الإتيكيت الرقمي”، وهو منظومة سلوكية غير مكتوبة، لكنها حاضرة بقوة في العلاقات اليومية التي تنشأ عبر الشاشات.
الدراسات الحديثة تؤكد أن السلوكيات الرقمية باتت تُقاس بمعايير جديدة تتجاوز اللغة اللفظية لتشمل الإشارات الرمزية مثل الرموز التعبيرية، سرعة الرد على الرسائل، اختيار الصور الشخصية، بل وحتى توقيت التفاعل، فبحث أجرته جامعة “أوكسفورد” سنة 2024 أظهر أن 63% من الشباب يعتبرون أن التأخر في الرد على الرسائل يُفهم غالبًا كعلامة على عدم الاحترام أو قلة الاهتمام، في حين اعتبر 71% أن استخدام الرموز التعبيرية بشكل مبالغ فيه يعكس سطحية في التواصل.
غير أن “الإتيكيت الرقمي” لا يقف عند حدود المجاملات أو شكليات الحديث، بل يتصل أساسًا بمسألة أعمق، وهي احترام الخصوصية، فالمجتمع الرقمي قائم على الشفافية المفرطة، حيث يشارك الأفراد تفاصيل حياتهم اليومية علنًا، ومع ذلك يظلون متمسكين بحقهم في حماية جوانب معينة من خصوصيتهم. هذا التناقض ولّد نقاشًا متصاعدًا حول حدود التدخل في حياة الآخرين، خصوصًا بعد أن أظهرت تقارير منصة “Pew Research” أن 45% من المستخدمين تعرضوا لمواقف مزعجة نتيجة تدخل غير مرغوب فيه في شؤونهم الشخصية على الإنترنت.
كما أن التحولات التقنية فرضت ضغوطًا إضافية على الأفراد في كيفية إدارة صورتهم الرقمية، فالمستخدم اليوم مطالب بالتحلي باللباقة ليس فقط في الكلام المكتوب، وإنما أيضًا في اختيار الصور والفيديوهات والمنشورات التي تمثّله أمام الآخرين، وقد أصبح من الشائع أن يُحكم على سمعة الفرد أو مصداقيته المهنية استنادًا إلى سلوكه الرقمي، وهو ما دفع مؤسسات تعليمية عديدة في العالم العربي إلى إدماج وحدات تدريبية حول “أخلاقيات التواصل الرقمي” ضمن برامجها الأكاديمية، في محاولة لإعداد جيل أكثر وعيًا بأهمية هذه السلوكيات.
إن بروز مفهوم “الإتيكيت الرقمي” يعكس، في العمق، انتقال العلاقات الاجتماعية من المجال الواقعي إلى المجال الافتراضي، وبينما يتيح هذا التحول فرصًا هائلة للتواصل والانفتاح، فإنه يفرض أيضًا تحديات أخلاقية وثقافية. فالتجاوزات اللفظية، والتنمر الإلكتروني، والتشهير العلني كلها مظاهر تؤكد أن المجتمع ما زال في طور التعلّم والتأقلم مع قواعد جديدة لم تُستقر بعد، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى القول بأننا نعيش مرحلة “السيولة الأخلاقية الرقمية”، حيث تختلط قيم العالم الواقعي مع متطلبات الفضاء الافتراضي في سياق سريع التغيّر.
كما يمكن القول إن آداب التواصل في زمن الشاشة لم تعد مسألة هامشية، بل غدت عنصرًا جوهريًا في بناء العلاقات الإنسانية المعاصرة، فالإتيكيت الرقمي ليس مجرد تفاصيل شكلية، بل هو انعكاس لاحترام الذات والآخر، وضمان لاستمرارية التعايش السلمي في فضاء افتراضي يزداد اتساعًا يوماً بعد يوم، ومن دون ترسيخ هذه القيم، يظل الخطر قائمًا بأن يتحول الفضاء الرقمي إلى ساحة صدام بدل أن يكون جسرًا للحوار والتفاهم.