بين “شلة دبي” وثقافة الانسحاب.. جدل المحتوى السطحي في الفضاء الرقمي العربي

يشهد الفضاء الرقمي العربي في الأسابيع الأخيرة موجة واسعة من الجدل، تمحورت حول ما يُعرف إعلامياً وشعبياً بـ “شلة دبي”، وهي مجموعة من المؤثرين وصنّاع المحتوى الذين برزوا في منصات التواصل الاجتماعي، خصوصاً “يوتيوب” و”إنستغرام” و”تيك توك”، واعتمدوا على محتوى ترفيهي قائم على الاستعراض المفرط للمظاهر، والترف، وأحياناً المواقف المفتعلة.

هذه الموجة لم تتوقف عند النقد، بل ترجمت إلى حملات جماعية لسحب الاشتراكات ومقاطعة هذه الحسابات، في محاولة من الجمهور العربي لإعادة الاعتبار لمفهوم “المحتوى المفيد”.

هذا الحراك الرقمي يعكس تحولاً في الوعي الجماعي لمستخدمي المنصات، حيث بدأ كثيرون يتساءلون: ما جدوى متابعة محتوى لا يقدم إضافة معرفية أو قيمية؟ ولماذا يُكافأ “المحتوى التافه” بملايين المشاهدات والإعلانات، بينما يعاني المحتوى العلمي، الثقافي، والتعليمي من ضعف الانتشار؟

من الناحية السوسيولوجية، يمكن قراءة هذه الظاهرة في ضوء اقتصاد الانتباه، حيث يتحدد نجاح أي صانع محتوى بقدرته على جذب أكبر عدد من المشاهدات، بغض النظر عن عمق أو فائدة ما يقدمه. وهنا يظهر التناقض: المنصات نفسها تشجع، عبر خوارزمياتها، على إبراز الفيديوهات الخفيفة والسريعة والإثارية لأنها تضمن التفاعل، بينما يُهمّش المحتوى الذي يتطلب تفكيراً أو وقتاً أطول للاستهلاك.

لكن ما يثير الانتباه في هذا الجدل هو الموقف الجماهيري الجديد. فبدلاً من الاكتفاء بالتذمر، بدأ الجمهور في الفعل: إلغاء المتابعة، التعبير عن الرفض العلني، بل وحتى الدعوة إلى دعم البدائل التي يقدمها شباب عرب يركزون على المحتوى العلمي، الثقافي، أو الفني الجاد. هذا التحرك أعطى للنقاش بعداً أخلاقياً وفكرياً، يتجاوز مجرد الهجوم على أفراد “شلة دبي” إلى مساءلة أعمق للمنظومة الرقمية بأكملها.

في المقابل، يرد أنصار هذا النمط من المحتوى بأن الجمهور هو من يحدد اتجاهات السوق، وأن متابعة الملايين لمثل هذه الفيديوهات تعني أن ثمة طلباً حقيقياً عليها. وبالنسبة لهم، فإن الهجوم الحالي ليس إلا تعبيراً عن صراع أجيال أو محاولة لفرض وصاية ثقافية على خيارات الترفيه.

غير أن القراءة الأكاديمية تكشف أن المسألة أبعد من ذوق فردي، بل تتعلق بتشكيل وعي جمعي لدى فئة واسعة من الشباب العربي. فحين تتحول المنصات إلى ساحات لتكريس المظاهر الفارغة – سيارات فارهة، سهرات فاخرة، تحديات سطحية – فإنها تساهم في خلق نموذج استهلاكي مقلق، لا يعكس واقع غالبية المجتمعات العربية، بل يزيد من فجوة التوقعات بين الطموحات والواقع المعيشي.

في نهاية المطاف، قد لا تؤدي حملات “إلغاء الاشتراك” إلى تغييرات فورية في سياسات المنصات أو في سلوك صناع المحتوى، لكنها تفتح الباب أمام وعي جديد يرفض مكافأة التفاهة ويبحث عن بدائل أكثر قيمة.

وربما يكون هذا الوعي هو البداية الحقيقية لتأسيس بيئة رقمية عربية أكثر اتزاناً، حيث يجد المحتوى الجاد مكانه إلى جانب الترفيه، دون أن يُقصى أو يُهمش.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...