هل تراجعت الأخلاق أم أن الإعلام أزال القناع عن حقيقتنا؟

في عالم تحكمه السرعة، وتطغى عليه الصور والمقاطع العابرة، بات من السهل التسرّع في الأحكام، خاصةً حين يتعلق الأمر بالقيم والمبادئ. يتساءل كثيرون اليوم بقلق مشروع: هل نحن نعيش فعلًا في زمن انحلال الأخلاق؟ أم أن ما نشاهده في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لا يعكس تراجعًا فعليًا في القيم، بل يكشف ببساطة عن وجهٍ ظلّ مختبئًا طويلاً خلف أقنعة المجاملة والادعاء؟

حين نُمعن النظر في ما يُتداول يوميًا من أخبار ومحتوى على المنصات الرقمية، يصعب ألا نستشعر نفورًا أخلاقيًا من مشاهد العنف، التمييز، التهجم، وانحسار قيم الاحترام والتسامح. لم يعد الحديث عن الفضيلة يحظى بالاهتمام ذاته الذي يُمنح للفضائح والمشاحنات. بل بات من المألوف أن تتحول مشاهد الإساءة أو التنمر إلى “ترند” يحصد ملايين المشاهدات. وهنا تبدأ المفارقة: هل هذه السلوكيات وليدة الزمن الراهن، أم أن الوسائط الحديثة فقط منحتها منبرًا لم يكن متاحًا من قبل؟

تشير دراسات عديدة إلى أن الأخلاق كمفهوم اجتماعي ليست ثابتة، بل تتغير بتغير الأجيال والسياقات. فحسب بحث صادر عن جامعة أكسفورد عام 2022، فإن ما يُعتبر اليوم “تراجعًا أخلاقيًا” قد يكون مجرد تحول في طبيعة القيم التي تعطيها المجتمعات أولوية، حيث أصبحت قيم الفردانية وحرية التعبير تتصدر على حساب قيم الجماعة والطاعة والاحترام التقليدي. ولكن هذا التحول لا يعني بالضرورة غياب الأخلاق، بل تغيّر تموضعها.

من ناحية أخرى، يكشف تقرير لـمنظمة اليونسكو صدر مؤخرًا أن وسائل الإعلام، وخصوصًا الرقمية، قد لعبت دورًا كبيرًا في “رفع الغطاء” عن السلوكيات التي كانت تمارس سابقًا في الخفاء. لم يعد بالإمكان إخفاء الممارسات المسيئة أو اللاأخلاقية كما في السابق، لأن كاميرا الهاتف قد تكون حاضرة في أي لحظة، لتوثّق وتنشر في ثوانٍ. وهكذا، أصبح الإنسان المعاصر مكشوفًا أكثر من أي وقت مضى، لا بفعل تراجع أخلاقي بقدر ما هو نتيجة لشفافية تقنية فرضت عليه أن يكون مرئيًا على الدوام.

لكن في المقابل، لا يمكن إنكار أن هذا الانكشاف الإعلامي قد ساهم أيضًا في تطبيع بعض السلوكيات المنحرفة، عندما تُعرض بشكل متكرر دون توجيه أو توعية. فالمحتوى الإعلامي لا ينقل فقط، بل يؤثر ويشكّل، وهو ما تؤكده نظرية الزرع الإعلامي التي طوّرها الباحث جورج جربنر، والتي تفيد بأن التعرّض المستمر للمحتوى العنيف أو المنحرف قد يؤدي إلى إدراك مشوّه للواقع وإلى قبول ضمني لهذا السلوك كأمر طبيعي أو مألوف.

وفي المغرب، كما في باقي المجتمعات، يُطرح هذا السؤال بإلحاح: هل نحن أقل أخلاقًا من آبائنا؟ أم أننا فقط نعيش في زمن أكثر جرأة على الاعتراف، وأقل حرصًا على إخفاء العيوب؟ يتذكر الكثيرون الزمن الجميل الذي كانت فيه الجيرة، الاحترام، والمروءة قواعد غير مكتوبة، بينما يشتكون اليوم من تفشي الأنانية، الجشع، وقلة الحياء. غير أن هذه المقارنات، وإن بدت منطقية، فإنها في كثير من الأحيان لا تأخذ بعين الاعتبار أن الأجيال القديمة لم تكن بمنأى عن الانحراف، بل فقط لم تكن سلوكياتها مكشوفة على العلن بهذا الشكل الفاضح.

إذًا، ربما لسنا بصدد انحدار أخلاقي شامل، بقدر ما نحن أمام عصر يكشف ما كان مستترًا، ويعيد ترتيب منظومة القيم بطرق غير مألوفة. عصر يكشف تناقضات الإنسان، ويمنحه فرصة نادرة ليرى نفسه من دون زينة أو تزويق. لكن هذا لا يعني التسليم بالأمر الواقع، بل يدفعنا أكثر إلى التفكير في مسؤولية الإعلام في التوعية، وفي دور الفرد في بناء أخلاقية حقيقية لا تقوم فقط على ما يُقال، بل على ما يُمارس ويُرسخ في الأفعال اليومية.

في النهاية، لا يكفي أن نسأل إن كانت الأخلاق قد تراجعت، بل ينبغي أن نسأل: ماذا نفعل نحن، كأفراد ومجتمعات، في مواجهة هذا الواقع؟ وهل نستطيع، وسط هذا الضجيج الإعلامي، أن نستعيد المعنى الحقيقي لما هو أخلاقي؟

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...