أسرار بلاغة الخطاب الملكي.. اكتشاف كنوز لغوية

يقول الكاتب ياسين ازريعة، الباحث في خطاب اللسانيات ولسانيات الخطاب، في سيرة ذاتية لتصدير كتابه الموسوم : “بلاغة الإيجاز وفصاحة الإنجاز: السمات اللسانية ذات الأولوية في الخطب المولوية” “استنشقت أريج اللغة بعدد من دور القرآن في عطلي الصيفية بمدينة أبي الجعد، وابتدأت مساري الدراسي الإبتدائي والإعدادي بمدينة الراشيدية، قبل أن انتقل إل مدينة الدار البيضاء وبعدها إلى مُدن بني طنجة وبني ملال وصفرو بحكم طبيعة عمل أبي نور الله ضريحه في أسلاك الأمن الوطني، واعود لمدينة الدار البيضاء لمتابعة دراستي الجامعية بكلية الحقوق باللغة الفرنسية، وأدرس بوحدة التكوين والبحث في الهجرة والقانون، قبل أن أيُمم شطر عالم الآداب  والعلوم الإنسانية واحصل بكلية ابن امسيك على إجازة ثانية مطبقة في التواصل المؤسساتي، وألج رحاب المعهد الملكي للإدارة الترابية حيث حزت المرتبة الأولى وتخرجت منها رائدا لفوجي فشغلت منصب ومهام باشا رئيس دائرة باسلاك وزارة الداخلية، وحزت بهذا الكتاب أيضا السبق في مجال النبش اللساني في طبقات الخطاب السياسي عموما والملكي تخصيص وفق مناويل قرائية انطلقت من البلاغي والإبلاغي والتواصلي ومرت بالمستوى الأسلوبي والنحوي والصرف-تركيبي والمضاميني والإقناع والإبداعي والسيميولوجي.

ربما لن يكفي سقف 500صفحة ونيف لبسط كل رقيقة ودقيقة من تراكم متن خطابي ملكي ناهز ربع قرن: فأنا الآن كمن طُلب منه أن يضع جَملا في شطيرة.

هو حيز زمني لا يكفي ولا يفي حتى لوصف صعوبة ارتياد أحواز البحث لمن جاء من عالم الحقوق والعلوم القانونية والسياسية (بالفرنسية) فيمّم شطر عالم اللسانيات وعلوم اللغة بكلية ابن امسيك قبل أن يعرج على كلية فاس-سايس، فلم يكن طريقي معبدا البتة واعتورته وُعورة المسالك، لولا وجود الشيخ الأكاديمي السالك، حرم الله وجهه على النار والمهالك، مُشرفي الأول الراحل عبد الله غزلان، سائلا المولى في عُلاه أن يجعل كل حرف كتبناه في صحيفة ذا ك الأديب الأريب الأواه، وأن يُكرم الحق مثواه، ويجعل الجنة مأواه.

كان سيمتد بي زمن التيه بعد أن تقطعت بي السبل لأن مشروع الكتاب ضل ضلالة مقارباتية، وظل شاردا حتى تعهد هذا المشروع البحثي استاذي مجيد في منتصف الطريق، فجمع الله به وعلى يديه العديد من العوامل المُعَيّنَة والمُعينَة في كل مرة على رفع الإلتباس، أو كلما اعتورت ورش الكتابة لحظات احتباس، فكان لي مصدر إلهام واستلهام واقتباس، ما شدَّ أزري وعزيمتي وأطلق وسيلتي، فرَعَى مشكورا الطرح الذي ابتغيته نهرا بلا ضفاف وبحرا لا شاطىء له، فتبنى معي هذا التوجه التحليلي مُذ كان فكرة إلى أن استوى خلقا أتمناه سويا بين راحتي جمهور التلقي، وكل المهتمين بهذه المستويات والحقول اللسانية، لفيف الاستاذة الفضلاء الأجلاء، أساطين الكليات الضادية لقراءة هذا الكتاب لينقشوا ببديع تصويباتهم وتعليقاتهم وحواشيهم جنباته حتى لا يجانب في تضاعيفه الصواب، أو تضعفه فقرة شائهة أو فكرة تائهة.

كما أنحني وأُثْني وأثَنِّي خالص الشكر إلى كل من مد لي يد العون من أجل إنجاز هذا المنجز البحثي، وفي مقدمتهم من مَلك سريرتي، أحبتي في سري وعلانيتي أفرادُ أسرتي ومن يبادلني الحب من أبناء عائلتي.

فالشكر كل الشكر لعائلتي عدة الزمان ولكل رفاق المكان، ولكل من أغفلت ذكره أو تذكره، لأن السهو والنسيان من طبيعة الإنسان، دون أن ينسينِيَّ الشيطان تقديم آي الامتنان وخالص العرفان لكل من تفضل بتخصيص حيز من زمنه وقبس من تركيزه لتترقب عيونه سكنات وحركات كل فقرة باعتباره حكما حكيما لتقييم إسهام المؤلف في المنجز التحليلي للخطاب السياسي عموما والملكي تخصيصا.

هو ملخص استدعى مني جمع شتات مستويات تحليلية منفصلة الحلقات مع ما استتبعه الامر من تغيير للمناويل القرائية وللأدوات المنهجية والمقاربة.

من خلال مسار مهني تقلبت فيه في تقلد مهام التسيير وتدبير الملفات الامنية والتنموية والخدمات المرفقية رفقا بالمصالح الفضلى والأهداف المثلى التي رسمها صاحب الجلالة لرعاياه، أدركت أن كل مشروع ناجح، يقتضي فراسة بالتأكيد، لكنه يتوكأ لزوما في بدايته على دراسة الجدوى.

وبإسقاط نفس المنهجية البحثة على مشروعي البحثي، انطلقت من دراسة جدواه وإضافته ووقعه من خلال استهلال ذكّرت فيه بجملة من الإعتبارات الموضوعية.

وعليه، فقد تصدّرت قائمة الإعتبارات الموضوعية التي جعلتني أختار موضوعي بطرح بديل للأطاريح التي حللت لسانيا او سياسا الخطاب السياسي وخطب الزعماء، كدأبي على تحقيق محورية الإضافة وفق مستويات ومناويل قرائية جديدة للمتن الخطابي الملكي،على أن تُشكل مساهمتي انفتاحا على تخصصات اخرى من خلال تكريس التوالج القائم بين عالم وعلم السياسة وعالم وعلم اللسانيات.

كما رام التصدير الوقوف عند أوجه الإلتقائية بين الحقلين وكذا محددات الإلتقاء وموجبات الوفاء بين الملك وشعبه، فاهتديت في محصلة الأمر إلى وجود مساحات تقاطع مكّنت مغربنا في العديد من المحطات من تفادي القطيعة التي تقطعت بسببها أوصال شعوب برؤسائها، فقطَّعت المشانق رؤوس القادة على المقاصل، وتفرقت السبل بلاجئيها بين دول العالم بين مستجد ومعوز وسائل.

ضابط السبق يجلوه أيضا حاصل دراسة مسحية للأعمال البحثية ذات الصلة بالخطابات الملكية، حيث طاف البعض فقط بتحليل الخطابات المولوية سياسيا ولم يتوسل جلهم بالأدوات القرائية اللسانية إلا من باب التوطئة المفاهيمية.

حتى من حاول غزل ألياف اللغة الخطابية الملكية، فَعل ذلك على استحياء وغازل المؤسسة أو نازل الحقول الأخرى، فتنازل بكل الأحوال عن العلمية طمعا أو وجلا أو خجلا، فاقتصر على الشق التواصلي وفق تناول سطحي لم يبرح الشق المفاهيمي كما وأمضت لذلك.

للأمانة العلمية، قد أفدت من بعضها، خاصة منهجية تقسيم الدكتور فتح الله عبد الناصر لدراسته الموسومة ” صفقوا لخطبة الزعيم: الاتصال السياسي في المغرب”، وبعضا من الأبنية الدلالية التي وردت في المصنف التيمي لعبد الرحمن شحشي في قراءته “لآليات اشتغال الخطاب عند الحسن الثاني في الحقلين الديني والسياسي”، رغم تغريدهما خارج الزمن السياسي الذي أرادت لمؤلفي أن يتحرك فيه، لارتباط طرحهما وأطروحتيهما بعهد الملك الراحل الحسن الثاني.
في تأصيله للتقليدانية الملكية دستوريا، ظل المستشار الملكي الراحل الدكتور محمد معتصم بدوره واقفا عند عتبة المدخلين السياسي والدستوري.

وقد آنست نفس التماشي مع سنة تحاشى المقاربة اللسانية في العديد من البحوث المتراصة في طبقات جيولوجيا وجنيالوجيا النسق السياسي المغربي، ولدى ثلة من أركان البحث، بما فيهم رائد البحث الأنتربولوجي جون واتربوري في كتابه حول “الملكية والنخبة السياسية في المغرب.

في هذا السياق، لن أستعرض كل الأطروحات لأطارحها مواقع التقصير وسأُعرض عن ذلك لعلمي الصميم أن لأصحابها منطق كتابة وسياق مرحلة كانا يستدعيان بناء موقف ما أو الحياد من خلال اللاموقف، وعدد من الاعتبارات التي كان يتعذر فهمها أحيانا حتى على خطاطات الفهم والمنط.

ما أن استقراء البنية البحثية ذات الصلة بالمؤسسة الملكية أو حقل تحليل خطاب السياسة، يحيل على غياب نسبي لفئة بحث عبر تخصصي بين عالمي السياسة والخطاب وعِلميهما، ويستدعي جيلا جديدا من الباحثين في الميدان لرأب الصدع.

ما قيل عن الجيل الذي نحن بصدد البحث عن منتسبيه يدفعني دفعا للحديث عن الأسباب الذاتي التي جعلتني أتوسم القدرة على توطين نفسي ضمن هذا الجيل: فضمن الأسباب الذاتية، يسعفني تكويني المزدوج في القانون واللسانيات لفهم التوالجات القائمة بين حقل السياسة وعلومها وعلوم اللسان، إضافة إلى ميلي إلى هذا النوع من الدراسات عبر–التخصصية (اللسانية والسياسية والاجتماعية والنفسية…)، الرامية إلى تفكيك الخطاب ومعرفة أنظمته، وبالتالي النفاذ إلى مراميه، فأدلي بدلوي أسوة بالذين تناولو ألوانا خطابية إقناعية أخرى في حقول غير حقل الخطاب السياسي وسياسة السّاسة (كالخطاب الإشهاري والتواصل السياسي ودور وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام.

فما أنزه نفسي ومنجزي عن الذاتية لان كان في اختيارها حظا للنفس، فقد أردت فعلا أن يقع اختياري على موضوع بِكر لم تُعبِّده أقلام الباحثين، فيجد القارىء والمهتم قطوفا مما أدنيته منهم دون شتات بين الديار، فيولون الأدبار ليجدوا ضالتهم بين دفتي الأطروحة التي أردتها مقدمة لمشروع توأمة جامعية، نُقارب من خلالها لسانيات وسيميائيات الخطاب الملكي لنُقرِّبها من دويلات الجوار المعرفي والجامع.

كان مناط هذه المجازفة الأكاديمية أن أُنجح هذه الزيجة المختلطة دون أن أَجنح في هذه المهمة المسحية لأركيولوجيا الخطاب الملكي والسياسي عموما، فأقدم مساهمتي أسوة بإخوتي، في أفق الخروج مستقبلا بفريق عمل عَبر- تخصصي ينهض بمهمة تتبع الإنتاج الخطابي الملكي والسياسي الوطني تَصوُّرا، وصياغة، وتحليلا وتناولا لمستويات توقيعه وقياسا كميا لدرجات وقعه.

وعليه، فإن حديثي عن الذاتي جعلني لا أرجم بالموضوعية المُطلقة التي تَطلِّق الذاتية عند اصطفائي لخطب دون غيرها ضمن مدونة خطابية ملكية ممتدة زمنيا وتيميا على مساحة فترة 18 سنة من الحكم، لإستحالة الإنطلاق من جميع الممارسات الخطابية الملكية (خطابات، حوارات، رسائل، كلمات ترحيبية…) وكذا صعوبة تحنيط تلك المدونة الخَطابية الممتدة لربع قرن في كتيب له سقفها الكمي: فحتى عند اختياري لفقرات بعينها دون سواها، أو عند إيثاري لشذرات دون أخرى، فقد كان في الاختيار منسوب من الذاتية، على نحوٍ كان يُنذر بخروجي عن جادة الإختيار الموضوعي، لأن الإعجاب ضرب من ضروب النفس التي تَعيب البحث الاكاديمي، فكان لزاما علي أن أكبَحَه من خلال خطاطة محاذير وتحصينات منهجية سطرتها سلفا.

وعليه، فقد قلتها صريحة فصيحة لما آويت إلى سَوْق عدد من المحاذير التي تعصمني من الذاتية ومن مغبة السقوط الموغل فيها، فخلِّصت ذمتي منهجيا وأخلصت لسَنن الموضوعية وسُننها عبر رُزمة ورزنامة من الضوابط المنهجية، فحجّمت وقزمت ولجمت هذه الذاتية وتحررت منها لما تحريت تكثيف المقاربة الوصفية، واستخرجت جداول إحصائية، واعتمدت مؤشرات كمية مُتحصَّلة من عمليات تفتيت النص وتحويله إلى أرقام وبيانات وخطاطات.

ولكي يُستتب أمر تغطية كل المداخل النظرية والتطبيقية، طرحت العديد من الأسئلة البحثية الناظمة وطارحتها سُبل التفكيك، فتناسلت بشكل مسترسل فولدت الواحدة الأخرى وفق الآلية الفرويدية لتداعي الأفكار الحر، حتى ناهزت 387 سؤالا بلورتها بإيجاز المقال حول حاملين توكأ عليهما جسد الإشكالية.

وقد شكل هذان الحاملان قادحا لبحث ما تواريه الخطابات المولوية من عوالم استراتيجية خطابية وتواصلية، تراعي السياق، وتتصف بالإتساق، وتروم فهم الأنساق الإتصالية وخواريزمات خلق التتبع الجماهيري ومؤشرات التتبع والإجابة والإستجابة وقنوات الإبلاغ ورسالية الإقناع، خدمة لمأرب الانسياق وتحقيق الإجماع على محورية المؤسسة الملكية في النسق السياسي المغربي باعتباره الضامن لوحدة التشكيلات الموزاييكية واللغوية والقبيلة والجهوية المغربية.

وعليه، فقد تفرقت مشاريع الأجوبة عن الإشكالية بين ديار فصول أربعة وتفرعت بعدها بشكل عنقودي en grappes، وارتصفت وتراصت على وجه 500 صفحة ونيّف، فجيء لجل الأسئلة بمحاور مُجزاة والتُمِسَ من اللغة ومنها أن تجزي الكيل كيفا وكما، علّها تولجنا إلى عالم البلاغة المولوية.

بشكل تفصيلي، فقد أوردت الحديث في الفصل الأول عن أهم ملامح مورفولوجية الخطاب الملكي من خلال قراءة في الشكل ومستويات الاتساق الترتيبي والتركيبي للخطاب الملكي والصياغة وإبداع الصاغة، والشكل الهندسي والطقوس المرتبطة بالإستهلال والإستقبال وتهييئ شروط الإقبال التي يوطئ لها الإعلان المعلن للعنوان وللفعل الخطابي من خلال لازمة “صاحب الجلالة يخاطبكم”…فضلا عن قراءة في لوغاريتمات تفكيك بعض الوقائع اللغوية، والوقوف على الاستلزام الحواري، لعلاقته بالأفعال الأنجازية غير المباشرة ودوره في معالجة الأساليب الخبرية المستلزمة خبريا (في الجملة المثبتة، وفي الجملة الخبرية المنفية، وفي الجملة الخبرية المؤكدة)، وكذا في معالجة الأساليب الإنشائية المُستلزمة حِواريا (في الامر والنهي والإستفهام وفي النداء أيضا) “.

فإذا كان الفصل الأول قد وقف عند الشكل ومستويات الإتساق الشكلي، فإن الفصل الثاني قد افرد مساحات منه للحديث عن سياقات التشكل وعلى مستويات السياق، وخصيصة تنويع الأساليب الخطابية والإستراتيجيات التداولية التي توقع بها المؤسسة الملكية أفعالها المادية وإشاراتها الرمزية، فترِد في سياقاتها المخصوصة لترسم المآل بعد مراعاة سياق الحال والسياق الموقفي، ومستويات الإدراك الملكي وحتى لحظات الإستدراك، فتعطي بذلك للملك ولخطاباته مستويات قبول ومنسوب إقبال يحضان على الإذعان الإرادي والإنسياق الجماعي أوالأحادي-الإنفرادي”.

وانسجاما مع العنوان الفرعي للكتاب، (محور بلاغة الإيجاز وفصاحة الإنجاز)، ذهب مسار التحليل والمفاتشة في اتجاه الحديث عن “بلاغة الخطاب المولوي من خلال توصيف محددات الإيجاز والقوة الإنجازية للأفعال الكلامية، وتم تعقب القوة الإنجازية للأفعال للوقوف على الإدراك الملكي لمفهوم الأفعال اللغوية المباشرة وغير المباشرة، وتقويته للعناصر اللغوية وغير اللغوية أيضا، كما وردت مُتضمَّنة في أسلوب التوكيد والمؤكدات وسلطات جلالته التكلمية، والحُكمية والحاكمية والتوجيهية والتبليغية التي تجعل لمنطوقه هِبة وقوة مستمدتان من منزلة المؤسسة الملكية”.

كما تعمدت التركيز على قيمة الإيجاز في النص المولوي بعيدا عن الشكل الذي يُدرَّس به الإيجاز باعتباره مبحثا من مباحث علم المعاني وعلما من علوم البلاغة، بتسليط الضوء على قيمة الإيجاز في بلاغة النص المولوي ودراسة تطبيقية لمتنه، حتى نتلمس أوجه الإيجاز فيه والقيمة البلاغية لعدد من الشواهد النصية اعتمادا على التحليل المباشر للنص من خلال نظرة استقصائية داخل السياق وبمناى عن النماذج المكررة لأنواع إيجاوز القصر وإيجاز الحذف التي تحفل بها ادبيات التوثيق البلاغي وعجزهم عن وضع ضابط لإيجاز القصر في نص الإعجاز البلاغي القرآني وسيرهم وفق قواعد مائجة مضطربة تأخذ البحث بالحدس والتخمين أكثر مما تأخذ بالقاعدة والتقعيد والتقنين.

اما الفصل الثالث فقد انصرف للحديث عن أنساق تواصل الملك مع شعبه، من خلال ثنائية الرسائل والوسائل، حيث حَرِصت على تجاوز وسائط النسق الإتصالي الكلاسيكي للسلف التي أُفرِدَت لها سلفا العديد من الأطاريـح الجامعية، لأبسط الحديث بشكل حداثي عن القنوات والأوعية الإلكترونية الحديثة لضخ الخطاب الملكي الواعي في وعي الحقل الخطابي السياسي المتداعي، وعن منهجية المستشارين الإعلاميين للملك في استثمار الهِبة التكنولوجية لوسائط وشبكات التواصل الاجتماعي للجم الهَبّة الإحتجاجية الجماهيرية في عدد من المحطات المفصلية”.

وقد بَسطت الحديث مسهبا عن فضاءات التفاعل مع العاهل وتوزعها بين تفاعلية المنظومة المشهدية ومجاز رد العاهل الفاعل على انفعالية النشطاء الإلكترونيين، والحركية والتكثيف الخطابي الملكي الذي يصاغ على عجل لمواجهة الحراك والحَركة والحْرْكَة الخطابية المضادة، من خلال الحديث عن المؤسسة الملكية بين:
-تجدد الرســـائل وتمدد الوســـائل؛
-التدوين الرقمي الرسمي ومدونات الإعلام الإسمي من خلال نموذج المُدوِّن أو سفيان البحري صاحب موقع “كريم روايّال”، ودوره مؤخرا في تقليص مساحات الإبهام الحالي ووقف تناسل الإشاعات حول الوضع الصحي لعاهلنا وحياته وشؤونه الأسرية لتييسرها لشعبه، وما استتبع ذلك من ترسيخ ملكيٍّ لثقافة السيلفي مع شعبه الوفي، خرق فيه جلالته ما عرف عن احتراز سلفه من إقحام الشعب في الحدائق العائلية للملك الراحل”.

كما تحسست مورفولوجية الرسائل العنوانية الآنية الموازية (المتعاليات النصية) وماتنطوي عليه حروف التشكيل وكذا الأداء البصري للشكل الكاليغرافي، فضلا عن خلفية الإبلاغ البصري وخلفياتها البلاغية ومهارة صناعة المعالجة الإعلامية، ودور الإشاريات الشخصية لجلالته”.

كان بالإمكان اجتزاء هذا المبحث لجعله موضوع كتيب آخر لجِدته وسبقه، ويمكن لأربع كت اخرى يمكن أن تستخرج وتَخرج من جلباب هذا الكتاب.

وقد ساقني الحديث عن الوسائل والتعاطي الإعلامي مع الرسائل الملكية لتوجيه بوصلة البحث والتحليل ولاستقصاء شَطر دور كتبة العرش ولفيف الإستشارة في الإشارة على الملك والتأشير على خُطب القصر وصاحب الإمارة، فضلا عن مهارات الصاغة في ترويج البضاعة في أسواق التداول الخطابي، وخبايا الأمور وما يدور ويمور في كواليس الكتابة وأوراش الصناعة والمعالجة الإعلامية للخطابات والرسائل الملكية، قبل أن أعرج في نهاية المطاف على محددات الإنسياق وراء خطاب ملكي بديل لخطاب سياسي ونقابي هذيل.

في هذا السياق، ولعلمي الصميم بأن “الأشياء تُعرف بضدها”، أعملت منطق مقياس المقارنة المعيارية Benchmarking، فانطلقت من الخطاب السياسي بمستواه الشعبوي الهزيل والهذيل، وتطرقت لفجور الخصومة وما شهدته ولم أحبذ الإستشهاد به من تبادل للتقريع في لحظات المقارعة والجدل البيزنطي بين أجيال العمل النقابي والسياسي، وما وقفت عليه من محاولات بائسة ويائسة لكل فاعل سياسي في بناء نصية خطابية غير متماسكة، تستمسك بناصية كاذبة، وما يعرفه كل كرنفال انتخابي من توالي خطابات التحقير الآخذة بمسوح السخرية والتصغير والتشهير بمنتوج الغير، وما سجلته من التباس في الموقف وتلبس بتلبيس الخطاب الحزبي لبيلسة الآخر…وما تواريه من خطاطات تدافع من أجل المواقع والمنافع، والمناصب والمكاسب والمراتب.

بالمقابل، تطرقت لمسالك التأليف ومناط التكليف بصياغة خطابات ملكية لا تدافع فيها ولا دفاع ولا اندفاع، فوجدت فيها خطابات ترافع، تترفع عن التدافع، وترفع سقف تداولها لتدويلها، في فصحى خطابها إفصاحا عن الواقع دون رتوش أو سفسطة، والفيت فيها تقليصا لمساحات الإبهام وتوسيعا لفسحة الإفهام، مع تغليب الإظهار على صناعة الإبهار أو تصنُّع الإنبهار، وإيثار التفسير على التبرير، والدأب الدائم على التحليل والتفكيك بدل الإنزلاق في مهاوي التشكيك… مع توزع الخطابات بين بنائية وبيانية، تأليفية وموقفية وأحيانا توفيقية لوقف النزيف الذي كان سيعصف في العديد من المحطات باستقرار المملكة ومصالحها وملفات مصالحاتها وأوراشها الإصلاحية الكبرى.

ضمن الخلاصات والتوصيات التي توصلت إليها والآفاق الجديدة التي يفتحها هذا السبر التحليلي، ان رسالية النبش الاكاديمي يجلوها تجاوزي للفوبيا البحثية التي ميزت عهد الإنقلابات والدسائس، وما استبطنته من التوجس خيفة من تحليل خطابات السائس، مع الإشارة والإشادة بالفتح البحثي الذي شكله عهد محمد السادس: بعد أن كان المرء لا يفتح فمه إلا وهو مُسجَّى فوق كرسي طبيب الأسنان، شاء الله أن تطلق الألسنة من عقالها والأقلام من معتقلاتها، فكُسِر جدار الصمت والخوف من تفكيك الخطاب السياسي والتحرر الإعلامي من السلطة المنتجة للخطاب، في سياق مرحلة عرفت تقزيما لعالم اللغة واللسانيات لحجبه عن عالم السياسة، وبالتالي وصد باب التحليل واحتمال تحايل اللغة، وبالتالي الحيلولة دون فتح الباب للتبكيت أو التنكيت.

“لذا، أروم مستقبلا المضي قدما في اتجاه رفع حالة توجس اللغة من دخول ردهات المعترك السياسي، لتفسح السياسة المجال للغة وتصفح عنها فتمكنها من تصفح أوراقها ودخول معتركها وجبهات معاركها، فتضرب بذلك صفحا عن عقود من القطيعة، فندشن مرحلة عنوانها الأبرز خلق التوالج والتواشج بين عالمين وعِلمين هما لَعَمري متنافران: علم اللغة وعلم السياسية، علّنا نحوز بذلك قَصب السبق في التقريب بين “العَدْوَتين العَدُوَّتين”.

كما رسمت ضمن مسارات تصوري المسقبلي الإسهام في تشييد بلاغات نوعية تمهد الطريق أمام التأصيل لقوانين بلاغية كلية لضبط الصفة البلاغية لمختلف أنواع الخطاب وصيغه وأنماطه بعيدا عن التنميط والتحنيط اللذان لازما البلاغة ووصماها لقرون بالسفسطة، مع إشادتي بالحركية الحالية للدرس اللغوي الحديث في مجال إعادة الإعتبار للبلاغة، مُذ وطّأ لها بيرلمان، فوسّع مفهوم البلاغة، فصارت بفضله علما عاما للخطابات، قبل أن يدأب على دأبه رواد الساحة اللغوية المغربية لإعلان تبني نفس الحركية البحثية التي كان كُل من الأستاذ محمد العمري والقارئ السيميائي والمترجم الجاد سعيد بنـﮝراد والحجة الثقة في الحِجاج اللغوي أبو بكر العزاوي ثالوثَها الأبرز.

وعليه، تحذوني مستقبلا رغبة شخصية للإنخراط الجاد في هذه الحركية البحثية لأدلي بدلوي بمعية ثالوثها المغربي المذكور (محمدالعمري/ سعيدبنكراد/ أبو بكر العزاوي) وحتى المغاربي، فأتتبع مسارب الجدل النظري والنقاش الدائر، في سياق التمدد الأفقي المغاربي لإطارات الحركية البلاغية الجديدة حيث كان لي سابق لقاء تاريخي جمعني في تونس خلال زيارة عمل على راس اللجنة الامنية المغاربية المشتركة بالدكتور المميز ووزير التعليم العالي ورائد التصوير اللفظي والديبلوماسي القدير عبد السلام المسدي، فضلا عن لقاءاتي بالشيخ الوقور حمادي صمود، وباقي رموز المدرسة التونسية (بجيليها وتياريها الكلاسيكي والمجدد)، في انتظار توسيع مجال زياراتي الودية والمريدية لباقي شيوخ البحث اللساني بالجزائر بعد رجوع العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها، فيكون إعادة فتح الحدود الترابية والنفسية مع نظام جارتنا الجائر فتحا اكاديميا على البحث اللساني المغربي بسبب النشاط البحثي المميز للجامعات الجزائرية.

كي أبقى في إطار اللياقة وأنضبط لضابط السقف الزمني وأضبط هذه الشذرة الملخصة مع عقارب ساعتي، فأقول انه آن الأوان لأضع القلم وأستغفر المولى إن زلت القدم، ورجائي أن يلقى هذا الملخص حظه من المناقشة والمفاتشة والملاحظة والتدقيق والتحقيق، فيجد المؤلف بذلك سببا لتسويغ ذاته وتثبيت لبناته ضمن باقي الكتب ذات الصلة، فيثري الكائن ويتيح تلمس سبل الممكن في حقل تحليل الخطاب السياسي.

زبدة القول الفصل في عبارة وقف ساقف بها على بوابة الكلام بعد ان ألح في الإجابة عليه وفتح مسارب النقاش، بالرغم من علمي بأنني أطلت وكان حريّا بي لو أطللت، فلي اليقين أن للقارىء والمهتم من حاتمي العطايا وكريم السجايا ما يشفع لي، فلا عتاب إن تجاوزت العتبة الزمنية، وشكرا على سعة الصدر وحسن التتبع ونفس القراءة.

 

المصدر: Alalam24

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...