خلال لقاء رفيع المستوى جمع كبار الخبراء والفاعلين في مجال المالية التشاركية، ألقى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق كلمة استعرض فيها أبعاد المشروع المغربي في هذا المجال، مؤكدًا أن انخراط المملكة في المالية التشاركية لم يكن ترفًا فكريًا ولا مجرّد تقليد لنماذج أخرى، بل كان خيارًا استراتيجيًا نابعًا من ثوابت المرجعية الدينية المغربية بقيادة أمير المؤمنين، ومن وعي عقلاني بأهمية إرساء منظومة مالية عادلة ومتكاملة تستجيب لمتطلبات العصر دون التفريط في الأصول.
وأوضح الوزير أن المغرب ساهم في هذه المبادرة بمؤسستين رئيسيتين هما بنك المغرب بصفته المؤسسة المالية، والمجلس العلمي الأعلى باعتباره المرجعية الدينية الرسمية في البلاد، وهو ما أفرز تنسيقًا متقدمًا بين الفاعلين الماليين والعلماء الشرعيين، حيث انفتح البنكيون على ضوابط التأصيل الفقهي، كما انفتح الفقهاء بدورهم على واقع التحولات الاقتصادية والاحتياجات البنيوية التي تطرحها المعاملات المعاصرة. وأبرز أن من نباهة والي بنك المغرب قبل سنوات، أنه بادر بالدفع نحو انخراط المملكة في تجربة المالية التشاركية، رغم أن نمطها كان قد انطلق في آفاق أخرى، ما تطلب منه إقناع مختلف الفاعلين بإمكانية التوفيق بين مقتضيات الشريعة ومستلزمات النجاعة الاقتصادية، في ظل التحفظات النظرية التي كانت تحيط بهذا القطاع، بعضها مرتبط بأبعاد سياسية أو مفاهيمية.
وأكد أحمد التوفيق أن الركيزة الشرعية لهذا المشروع تستند إلى العلاقة بين إمارة المؤمنين باعتبارها الضامن لحفظ الكليات الخمس للشريعة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وبين المؤسسات المالية والشرعية التي تشتغل تحت إشرافها، وهو ما يجعل أي تطور في هذا المجال محكومًا بضوابط دقيقة، تجمع بين المصلحة والمقصد دون الإخلال بالنصوص القطعية. وأوضح أن المغرب اختار توصيف هذا القطاع بـ”المالية التشاركية” عوض “المالية الإسلامية”، تجنبًا لأي خلط مفاهيمي قد يوحي بأن الأنماط المالية الأخرى خارجة عن الإسلام، معتبرًا أن هذا التوصيف التقني يعبر بدقة عن جوهر هذه التجربة المغربية المتفردة.
وتوقف الوزير عند الدور المحوري للمجلس العلمي الأعلى، باعتباره الجهة الوحيدة المخولة بإصدار الفتوى في القضايا التي تهم الشأن العام، مؤكدا أن ما يصدر عن الأفراد من آراء دينية يدخل في خانة حرية التعبير، ولا يُرتب أي أثر شرعي أو قانوني. وقد قامت لجنة الفتوى المنبثقة عن المجلس، بمعية لجنة خاصة لمتابعة قضايا المالية التشاركية، بإصدار 194 رأيًا شرعيًا جوابًا عن استشارات رسمية، خلال أكثر من 400 اجتماع علمي قدّم خلالها أعضاء اللجنة وخبراؤها نحو 387 دراسة شرعية وقانونية وميدانية، ما يعكس الجهد التأصيلي الكبير المبذول في هذا المسار.
وطرح الوزير جملة من الأسئلة الجوهرية التي تُطرح اليوم على الفاعلين في القطاع، من بينها ما إذا كان النمط التشاركي قادرًا على القيام بجميع وظائف البنك التقليدي، وهل من الضروري الحفاظ على النمطين معًا، أم أن الأمر يقتضي نوعًا من الدمج أو التحيين بناءً على مقتضيات المصلحة والمقصد؟ كما تساءل إن كانت هناك حاجة موضوعية لتعويض وصف “الإسلامي” بوصف “التشاركي” درءًا لأي خلط في المفاهيم الشرعية لدى الرأي العام، معتبرًا أن هذه الأسئلة لا تخرج عن دائرة همّ ديني وهمّ سياسي وهمّ أخلاقي، ينبغي معالجتها بوعي فقهي واجتماعي وتاريخي.
واستعرض في هذا السياق نماذج من الاجتهاد المغربي الذي يوازن بين النص والمصلحة، مستشهدًا بمراجعة مدونة الأسرة، التي شملت 400 مادة لم يُستشر فيها المجلس العلمي الأعلى إلا في أقل من 20 مسألة تتعلق بالنصوص القطعية، بينما تم اعتماد مقاربات اجتماعية وقانونية في باقي الأحكام، وهو ما يؤكد أن الاجتهاد المؤسسي في المغرب يخضع لسياق واقعي، دون الإخلال بالثوابت.
وفي ختام كلمته، أكد أحمد التوفيق أن ورش المالية التشاركية في المغرب بلغ مرحلة جديدة، تتطلب التفكير في خارطة طريق مستقبلية، تنبني على براغماتية واضحة، وتُراعي خصوصيات الواقع المغربي، دون الوقوع في فخ التهويل العقدي أو الإيديولوجي، مشددًا على أن هذا الورش لا يزال في حاجة إلى تعزيز الثقة، وتوسيع قاعدة الوعي، وربط الأداء المالي بالمرجعية الأخلاقية والشرعية التي تشكل عمق المشروع المغربي بقيادة أمير المؤمنين.