يونس مجاهد من العمل السري إلى أزمة البيت النقابي: شهادة أربعة عقود على تحولات الصحافة المغربية

في حوار مطوّل ضمن برنامج “ضفاف الفنجان”، قدّم يونس مجاهد، واحد من أبرز الوجوه التي طبعت مسار الصحافة المغربية خلال العقود الأربعة الأخيرة، شهادة سياسية ومهنية نادرة تجمع بين ذاكرة النضال السري في السبعينات وتشريح راهن الجسم الصحفي والنقابي اليوم. الرجل الذي ترأس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وقاد أول تجربة للمجلس الوطني للصحافة، وكان أول عربي يترأس الاتحاد الدولي للصحفيين، عاد هذه المرة ليسرد، بقدر من المرارة والهدوء في آن واحد، كيف تحوّل “البيت النقابي” الذي ساهم في بنائه إلى فضاء لممارسات يعتبرها “مناقضة للقانون والأخلاق المهنية”.

في بداية الحوار، أوضح مجاهد وضعيته الحالية على رأس اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون المجلس الوطني للصحافة بعد انتهاء ولايتها القانونية. فالقانون حدد مدة سنتين لهذه اللجنة، انتهت في أكتوبر 2025، غير أن واقع المرفق العمومي، كما يقول، فرض الاستمرار في “تصريف الأعمال” بحكم وجود مقر وموظفين والتزامات يومية لا يمكن تركها معلقة. ويؤكد أن القانون الجديد الجاري مناقشته في مجلس المستشارين، حين يُنشَر في الجريدة الرسمية، سيفتح الباب أمام استئناف عادي لنشاط المجلس عبر تنصيب تشكيلته الجديدة، لتطوى صفحة المرحلة الانتقالية الراهنة.

لكن النقطة الأكثر حساسية في حديثه لم تكن مرتبطة بالمجلس الوطني، بل بالنقابة الوطنية للصحافة المغربية، التي يعتبر أحد مهندسي مسارها الحديث. فقد حسم مجاهد الجدل الدائر حول وضعيته داخل النقابة، مؤكداً أنه لم يُطرَد بل انسحب منها بارادته، بعد مسار طويل من التنبيه والاحتجاج الداخلي. ويرى أن ما يجري داخل النقابة اليوم لا يليق بتاريخها ولا بتاريخ مناضليها، إلى درجة وصفه الأجواء بأنها “لعب ديال الدراري الصغار” لا يشرفه الاستمرار فيه، معتبراً أن النقابة “وصلت إلى الدرك الأسفل” في فترة وجيزة قياساً بتاريخها الممتد منذ سنة 1963.

يشرح مجاهد أن لحظة الانفصال لم تكن قراراً فجائياً، بل نتيجة مسار بدأ مع المؤتمر الأخير للنقابة، الذي خرجت عنه التزامات سياسية وتنظيمية وأخلاقية واضحة؛ في مقدمتها احترام القانون الأساسي، واعتماد نظام حوكمة يضمن الشفافية في التسيير المالي والإداري، وتفعيل لجان الأخلاقيات والمراقبة المالية. كما تم الاتفاق، وقتها، على أن يتولى عبد الله البقالي رئاسة النقابة في إطار تعاقب ديمقراطي عادي، على أساس استمرار النهج السابق المبني على احترام الأخلاقيات والقانون.

غير أن ما وقع، بحسبه، هو “تنكر كامل لهذه الالتزامات”، إذ لم تُفعّل لجان الأخلاقيات والحوكمة كما اتُّفق، ولم تُحترم دورية اجتماعات المجلس الوطني الفيدرالي الذي ينص القانون الأساسي على انعقاده مرة كل ستة أشهر، في حين صار يجتمع مرة واحدة في السنة. كما انتقد مجاهد طريقة تدبير الاجتماعات، سواء في المجلس أو في المكتب التنفيذي، الذي استمر يعقد لقاءاته عن بُعد عبر “الزوم” كما لو أن البلاد لا تزال في زمن الجائحة، دون استدعاءات قانونية واضحة أو جداول أعمال محددة سلفاً ومحاضر رسمية توثق أشغال هذه الاجتماعات.

من موقعه كعضو في المجلس الوطني الفيدرالي، وجه مجاهد رسائل احتجاجية إلى رئيس المجلس، عثمان النجاري، نبه فيها إلى خرق دورية الاجتماعات وعدم احترام مقتضيات القانون الأساسي، من قبيل ضرورة توجيه الاستدعاءات قبل عشرة أيام مرفقة بجداول الأعمال. ويقول إن الرد الذي تلقاه كان بالأساس نوعاً من التنصل من المسؤولية، عبر التذرع بـ”هيمنة الأغلبية” داخل المكتب التنفيذي، وهو ما اعتبره مجاهد ضرباً لمبدأ الاستقلالية الأخلاقية المفترض أن يتحلى بها رئيس المجلس الوطني الفيدرالي باعتباره “ضمير النقابة”.

ولم يتوقف نقده عند الجانب الشكلي، بل امتد إلى جوهر التحول الذي شهده الدور النقابي، حين اعتبر أن أخطر ما وقع هو تحول النقابة من إطار يدافع عن الأجراء والصحفيين إلى طرف يتدخل، عملياً، في توجيه المقاولات الصحفية ذاتها، في إشارة إلى بيانات وتدخلات رآها أقرب إلى الاصطفاف إلى جانب الناشرين منها إلى حماية حقوق المهنيين. بالنسبة إليه، هذا الانزياح يمثل خروجاً عن الرسالة الأصلية للنقابة وعن روح قانونها الأساسي.

ومع ذلك، لم يتنصل مجاهد من نصيبه من المسؤولية التاريخية، بل اعترف بأن جيل القيادة السابقة يتحمل جانباً من المسؤولية، لأنه “وثق أكثر مما يجب” في القيادة الجديدة، ودفع في اتجاه تجديد النخب وضخ دماء جديدة في الأجهزة، إيماناً بضرورة التداول وعدم التعلق بالكراسي. غير أن ما لم يتوقعه، كما يقول، هو أن يتم الانقلاب على قواعد اللعبة نفسها، أي على القانون والالتزامات التي وُضعت جماعياً.

بعيداً عن الحاضر المتوتر، عاد الحوار ليغوص في ذاكرة مجاهد السياسية والنضالية، منذ طفولته في الدار البيضاء ثم تطوان. هناك، في محل الحلاقة الذي كان يملكه والده، تشكلت أولى ملامح وعيه السياسي؛ فقد كان المحل فضاءً لنقاشات ساخنة بين الاستقلاليين والاتحاديين حول الانتخابات وأحداث الستينات، ما جعل الطفل يتشبع مبكراً بأجواء الحركة الوطنية والصراع السياسي.

في بداية السبعينات، سيتحول هذا الوعي إلى انخراط فعلي في الحراك التلامذي بمدينة تطوان، حيث شارك في مظاهرات تندد بأوضاع التعليم، أشهرها مظاهرة “جنازة التعليم” التي انتهت بتدخل عنيف للقوات العمومية وسقوط ضحايا، مشهداً ظل عالقاً في ذاكرته. ومن هناك، سيبدأ مساره داخل منظمة “إلى الأمام”، إحدى أبرز التنظيمات اليسارية الراديكالية السرية آنذاك.

يصف مجاهد تنظيم “إلى الأمام” كتنظيم شديد الانضباط، أقرب في بنيته إلى تنظيم عسكري، حيث يتم المرور من مرحلة “المتعاطف” إلى “الحلقة” ثم “اللجنة” فـ”اللجنة الأساسية”، قبل الوصول إلى “اللجنة المركزية”. كل انتقال بين مستوى وآخر يمر عبر تكوين سياسي وإيديولوجي صارم، يعتمد على قراءة الكتب والمجلات اليسارية المغربية والعربية والدولية، وتقديم العروض، والقيام بمهام ميدانية كاستقطاب المناضلين وتوزيع المناشير وإدارة الخلايا في الأحياء والمعامل والجامعات.

ومن التفاصيل التي أضفت على شهادته بعداً توثيقياً نادراً، حديثه عن أساليب العمل السري، من تزوير الهويات لصالح مناضلين ملاحَقين، إلى نسج شبكات نقل الوثائق والمطبوعات بين المدن، وصولاً إلى ابتكار وسائل محلية لطباعة المناشير. هنا يبرز حديثه عن “الآلة الفيتنامية” التي صنعها شقيقه النجار بوسائل بسيطة من الخشب والقماش، لتُستعمل في طباعة المنشورات داخل بيت سري بتطوان، بدل المخاطرة بنقلها مطبوعة عبر الحافلات والقطارات في ظل تشديد التفتيش الأمني.

على المستوى الفكري، يقر مجاهد بأن التجربة لم تكن بلا تناقضات، خصوصاً في ما يتعلق بموقف “إلى الأمام” من قضية الصحراء المغربية. فالتنظيم تبنى، في البداية، أطروحة غامضة تركز على “تقرير المصير” و”إعادة إدماج سكان الصحراء ديمقراطياً” بعد مرحلة الاستعمار الإسباني، ما وضعه في مواجهة صريحة مع المزاج العام والحس الوطني الجمعي، وأدى إلى عزلة سياسية خانقة. هذه العزلة، كما يقول، كانت منطلقاً لمراجعات داخلية عميقة، بدأها قبل حملة الاعتقالات التي ستصيب التنظيم وتغيّر مسار كثير من مناضليه.

بين هذا الماضي السري القاسي، والحاضر النقابي المأزوم، يظل خيط ثابت يربط مسار يونس مجاهد: الإيمان بضرورة الانضباط لقواعد مشتركة، سواء كانت قوانين داخلية لتنظيم ثوري تحت الأرض، أو قوانين أساسية لنقابة مهنية ومجلس وطني للصحافة تحت الضوء. من هذا المنطلق بالذات، يبدو أن صراعه الحالي ليس مع أشخاص بقدر ما هو مع “منطق” يرفض، في نظره، الاحتكام للنصوص والالتزامات والأخلاقيات التي تأسست عليها التجربة النقابية والمهنية للصحفيين المغاربة.

في ختام هذا البوح، يخرج المتلقي بصورة مركبة عن ضيف الحلقة: مناضل يساري سابق عرف دهاليز السرية ومحاكمات التاريخ، ونقابي وطني ساهم في بناء مؤسسات الصحافة المغربية الحديثة، وسياسي اتحادي يحتفظ إلى اليوم بقناعة أن حماية مهنة الصحافة تبدأ أولاً من احترام قانونها وأخلاقياتها، قبل أي شعارات أو اصطفافات. وبين الماضي والحاضر، تظل شهادته جزءاً من ذاكرة مهنية وسياسية جماعية، تطرح أكثر من سؤال حول مستقبل الصحافة والنقابة في المغرب، وحول الكلفة التي يمكن أن يدفعها كل من يصرّ على أن يقول “لا” من داخل البيت، لا من خارجه.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...