مستجد تشريعي يطال القانون رقم 36.21 المتعلق بالحالة المدنية

بقلم: ياسيــن كحلـي – مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية

حين يتجدد السعي نحو إصلاح النصوص التشريعية، لا يكون ذلك غالبا استجابة ظرفية أو مجرد تصحيح تقني، بل تعبير عن رؤية أعمق تتبلور مع تزايد الحاجة إلى إعادة التوازن بين مقتضيات النص وضرورات الواقع. وليس من نافلة القول أن القوانين، مهما بلغت من الصياغة والدقة، تظل أداة قابلة للتطوير كلما أثبتت الممارسة أن أجزاء منها لم تعد تواكب نبض المجتمع أو انتظام المؤسسات. ضمن هذا المسار، يندرج مشروع القانون رقم 16.25، الذي صادق عليه مجلس الحكومة بتاريخ 10 يوليوز 2025، والمقدم في سياق تعديل الفقرة الرابعة من المادة الخامسة والثلاثين من القانون رقم 36.21 المتعلق بالحالة المدنية .

هذا المشروع، الذي قد يبدو لأول وهلة متواضع الأثر أو محدودا من حيث نطاقه، يكشف عند تمعن هادئ أنه يحمل من الدلالات ما يتجاوز بعده المادي الضيق. إذ لا يتعلق الأمر بمجرد تعديل لفظي أو صياغي، بل بإعادة النظر في إحدى النقاط التي شكلت في واقع الممارسة الإدارية عائقا أمام تجاوب المؤسسة مع طلبات المواطنين المعروضة على أنظار اللجنة العليا للحالة المدنية. تلك اللجنة، التي أُنيط بها دور تنظيمي واستشاري حساس، لم تكن دائما على قدر التطلعات، إما بسبب القيود المفروضة بنص القانون، أو بفعل محدودية الصلاحيات أو تقييدها بتأويلات إدارية صارمة .

ما يستفاد من مضمون البلاغ الصادر عن مجلس الحكومة أن المشروع لا يستهدف فقط تيسير مسطرة إدارية معينة، بل يسعى ضمنيا إلى إعادة الاعتبار للجنة العليا بوصفها أحد مفاتيح تسوية بعض الوضعيات المدنية التي تستعصي أحيانا على الحل، لا لقلة النصوص، بل أحيانا لكثرة ما فيها من تضييق. ومن ثم، فإن الانفتاح التشريعي الذي يبديه هذا المشروع يعبر عن توجه سياسي وإداري عام يروم إلى تخفيف وطأة البيروقراطية، وتمكين المواطن من الولوج إلى حقوقه المدنية بسلاسة، دون أن يثقل كاهله بحلقات إدارية تفتقد أحيانا للمرونة اللازمة.

ولعلّ ما يمنح المشروع وزنه الرمزي، هو تزامنه مع موجة إصلاحات مؤسساتية تراهن فيها الدولة على تجويد العلاقة بين الإدارة والمرتفق. إذ لم يعد المواطن اليوم ذلك المتلقي السلبي للقرار الإداري، بل بات يطالب بمرفق عام يراعي وضعيته الشخصية، ويستجيب لطلباته ضمن آجال معقولة، ووفق مساطر مفهومة وغير مرهقة. ومن هذا المنظور، فإن المشروع لا ينفصل عن الدينامية الشاملة التي تقودها الدولة في مجال تحسين الأداء الإداري، بل يعد جزءا من سيرورة إصلاحية متراكمة.

وإذا كان جوهر المشروع قانونيا، فإن آثاره المرتقبة ذات طابع اجتماعي وإداري في آن. ذلك أن تيسير مسطرة معالجة الطلبات المعروضة على اللجنة العليا من شأنه أن ينهي كثيرا من حالات التوجس والتعطيل التي ترتبط عادة بإشكاليات في الأسماء أو الوضعيات المدنية أو سجلات الحالة. كما أنه، وبالقياس إلى حالات سابقة، من شأنه أن يمنح الإدارة هامشا أكبر للحركة القانونية في ظل احترام الشرعية، ويعيد للمواطن ثقته في أن القانون ليس فقط أداة تنظيم، بل وسيلة إنصاف .

ولا يمكن إغفال الخلفية الرمزية لهذا النوع من المشاريع، فهي تعبر عن تحول في فلسفة التشريع من منطق تقني صرف، إلى منطق وظيفي يقدر الأثر الاجتماعي للنص، ويزن عواقبه على الاستقرار القانوني للأفراد. وهذا الانتقال هو ما يميز القوانين التي تراكم المشروعية، عن تلك التي تثقل كاهل التطبيق بجمودها.

من هنا، يبدو مشروع القانون رقم 16.25، رغم بساطته الظاهرة، أقرب إلى كونه تمرينا دقيقا في التكييف التشريعي، واستجابة هادئة ولكن مدروسة لحاجة واقعية. وهو لا يطمح إلى تغيير مهيكل، بقدر ما يهدف إلى تصحيح مسار، وترميم ثغرة، وإعادة صياغة نقطة تعثر لا يراها الكثيرون إلا حين تغلق أمامهم أبواب الحل .

وما دام الإصلاح الإداري لا يقاس بعدد النصوص الجديدة، بل بمدى جدواها في سياق التطبيق، فإن نجاح هذا المشروع لا يختبر في قبة البرلمان فقط، بل في مكاتب الحالة المدنية، حين يصبح المرتفق قادرا على تسوية وضعيته دون اضطرار إلى التظلم أو الترافع أو الانتظار إلى أجل غير معلوم. حينها فقط، يصير النص شاهدا على تحول حقيقي في الممارسة، لا مجرد بند في سجل التشريع .

بهذا المعنى، لا يكون مشروع القانون رقم 16.25 مجرد تعديل فقرة في قانون نافذ، بل مساهمة ضمن نسق أوسع نحو إعادة بناء الثقة بين المواطن والإدارة، وبين القانون وفعاليته. وقد تكون الخطوة المقبلة ليست في تعديل مادة أخرى، بل في إعادة التفكير في الإطار المؤسساتي ككل، وتوسيع صلاحيات الهيئات الإدارية المختصة، وتطوير أدوات التفاعل مع المواطنين، حتى لا يكون الحق رهينا بمساطر، بل مضمونا بالتفعيل.

وعندها فقط؛ يمكن القول إن النص قد بلغ تمامه، وإن القانون لم يبق حبيس الورق، بل أصبح معناه نافذا في حياة الناس، يتجلى في معاملاتهم، ويحفظ كرامتهم، ويؤكد أن الإصلاح، وإن جاء متدرجا، فإنه حين يلامس الأساس، يترك الأثر الأبلغ .

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...