الكاتب: رضوان الله العطلاتي
أصبحت الأخبار وسرعة الضوء وجهين لعملة واحدة، لذا بات تحري الدقة في العمل الصحفي أشبه بالخيط الرفيع الذي يفصل بين المصداقية والتضليل، فلم يعد الصحافي مجرد ناقل للأحداث، بل مرجعًا يُستقى منه الفهم الصحيح للواقع؛ غير أن هذا الدور المحوري يضعه أمام مسؤولية لا تحتمل الهفوات: مسؤولية أن يكون لسان الحقيقة، لا أداة للتلاعب بالمعلومات والرقص على الحبلين.
لم تعد الصحافة اليوم مجرد مهنة، بل أصبحت التزامًا أخلاقيًا يتطلب أعلى درجات التمحيص والتدقيق، فمع ازدهار الإعلام الرقمي، باتت الأخبار تنتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي قبل أن تخضع للمعالجة على طاولة التحرير، وهنا تحديدًا يكمن التحدي: كيف يضمن الصحافي أن الخبر الذي ينشره ليس مجرد صدى لمصدر مجهول أو شائعة طائشة لا يُعرف من أطلقها؟
في عالم تتداخل فيه المصالح وتُحرَّف الحقائق لخدمة أجندات متباينة، تصبح الدقة الصحفية الدرع الحامي للمتلقي، فالخبر الكاذب قد يشعل أزمة سياسية، والمعلومة غير الدقيقة قد تدمر سمعة أفراد ومؤسسات. لذا، يجب أن يكون الصحافي حارسًا للحقيقة، لا مجرد ببغاء يردد المتاح.
المهنية في الصحافة لا تُقاس بعدد المقالات المنشورة، بل بمدى التزام الصحافي بمبدأ التحقق والتأكد، فالمعطيات الرقمية يجب أن تكون صحيحة، والأسماء مضبوطة، والسياق سليم لا حمال أوجه.
لا مجال للتسرع في نشر خبر دون تمحيص “خدمة للسبق فقط” لأن التراجع عن الخطأ لاحقًا قد لا يكون كافيًا لاستعادة الثقة المفقودة، كما أن الصياغة الدقيقة لا تقل أهمية عن صحة المعلومات؛ فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل وسيلة لصياغة الحقيقة دون تحيز أو تلاعب، فالصحافي الذي يملك مهارة التعبير الدقيق يستطيع أن ينقل الخبر بوضوح دون أن يترك مجالًا للبس أو التأويل الخاطئ وتعدد القراءات.
يعتقد البعض أن الالتزام بالدقة قد يُفقد المقالات “رونقها” ويجعلها جامدة بلا روح، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فالمقال الدقيق، عندما يُكتب بأسلوب إبداعي وسلس، يملك قوة الإقناع والتأثير أكثر من أي محتوى يعتمد على فقاعة الإثارة الزائفة؛ القارئ اليوم لم يعد يبحث عن العناوين الصادمة فقط، بل يريد محتوى موثوقًا يمنحه رؤية واضحة لما يحدث حوله. لذلك، الصحافة الدقيقة ليست مجرد التزام مهني، بل هي استثمار في بناء الثقة مع المتلقي، فكل كلمة تُنشر دون تدقيق تساهم في تشويه الحقيقة، وكل معلومة يتم التحقق منها تساهم في بناء صحافة مسؤولة ترتقي بمستوى الوعي المجتمعي.
بحكم التراكم، قد ينسى الناس الأخبار العاجلة بعد يوم أو يومين، لكن الخطأ الصحفي يبقى محفورًا في الذاكرة، فالصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي شهادة يومية على ما يحدث في العالم. والصحافي، سواء أدرك ذلك أم لا، هو مؤرخ العصر الذي ستعود إليه الأجيال المقبلة بحثًا عن الحقيقة. لذا، عندما يكتب الصحافي كلمة، عليه أن يتذكر أنه لا يكتب مجرد خبر، بل يضع بصمته في سجل الحقيقة، والخيار يبقى قائما بين أن يكون صوتًا للحقيقة، أو مجرد صدى للضجيج.