لماذا يسود السلوك السلبي في فضاءات التواصل؟

أصبح النقد على منصات التواصل الاجتماعي سلوكًا يوميًا يلازم التفاعلات الرقمية في العالم العربي كما في باقي أنحاء العالم، غير أن المقلق في هذه الظاهرة هو تحوّل النقد من أداة للمساءلة البنّاءة والتعبير عن الرأي إلى ممارسة سلبية متكررة تتجسد في الهجوم الشخصي والتقليل من شأن الآخرين، هذا التحول لا يُفسد النقاشات العامة فحسب، بل ينعكس أيضًا على العلاقات الإنسانية ويؤثر على الصحة النفسية لمستخدمي المنصات.

دراسات عديدة أكدت أن البيئة الرقمية تعزز ما يُعرف بـ”إزالة الكوابح الاجتماعية”، حيث يشعر الفرد بقدر أكبر من الحرية للتعبير بحدة أو حتى بعدوانية، مستفيدًا من نسبية المجهولية وغياب المواجهة المباشرة. دراسة لجامعة “ستانفورد” عام 2023 أوضحت أن المستخدمين الذين يخفون هويتهم الحقيقية أكثر عرضة بنسبة 35% لاستخدام لغة هجومية مقارنة بمن يكتبون بأسمائهم وصورهم الحقيقية.

غير أن الأسباب لا تقف عند البعد النفسي فقط، بل تمتد إلى بنية المنصات نفسها، فخوارزميات شبكات التواصل تفضل المحتوى الجدلي والمثير للانفعال لأنه يولد معدلات تفاعل مرتفعة، ما يجعل التعليقات السلبية أكثر ظهورًا وتداولًا من التعليقات المعتدلة، ووفق تقرير صادر عن “مجلس أوروبا” سنة 2024، فإن 64% من المشاركين يرون أن بيئة التواصل الاجتماعي باتت أكثر عدائية خلال السنوات الخمس الأخيرة، بسبب سياسات المنصات التي تُضخم الجدل على حساب الحوار المتزن.

في السياق العربي، يظهر هذا السلوك بشكل واضح في النقاشات المتعلقة، حيث تتحول المنصات إلى ساحات استقطاب حاد، فبدل أن يكون النقد وسيلة لتبادل الأفكار، يغدو سلاحًا لتشويه السمعة أو لإسقاط الآخر، وما يزيد من خطورة الظاهرة هو تطبيعها بين الأجيال الشابة، حيث يكبر الأطفال والمراهقون في بيئة رقمية يتعاملون فيها مع السخرية والتنمر كجزء من “اللعبة الاجتماعية”، مما يرسخ لدى البعض فكرة أن الاعتداء اللفظي ممارسة عادية.

انعكاسات هذه الثقافة السلبية عميقة على الصعيد الفردي والجماعي؛ فالأفراد الذين يتعرضون لنقد جارح أو هجوم علني يعانون غالبًا من تراجع الثقة بالنفس، وقد يلجأ بعضهم إلى الانسحاب من الفضاء الرقمي بالكامل، أما على المستوى المجتمعي، فإن الانتشار الواسع للنقد السلبي يضعف إمكانيات بناء نقاش عام صحي، ويغذي مناخًا من الانقسام والعداء.

رغم قتامة هذه الصورة، ثمة محاولات لمقاومة ثقافة الهجوم السلبي عبر حملات توعية، ومن خلال إدماج برامج “المواطنة الرقمية” في بعض المؤسسات التعليمية، غير أن التحدي الأكبر يظل في إرادة المنصات نفسها للحد من المحتوى المؤذي، وهو أمر ما يزال مثار جدل عالمي حول حدود الرقابة وحماية حرية التعبير.

ليبقى السؤال مفتوحًا: كيف يمكن إعادة الاعتبار للنقد كأداة بناء لا كهدم؟ الجواب قد يكمن في إعادة تربية رقمية شاملة تدمج بين المسؤولية الفردية، والوعي المجتمعي، وإصلاح السياسات التقنية للمنصات، فالنقد ليس في حد ذاته مشكلة، إنما المشكلة في تحوله إلى سلوك سلبي يهدد قيم الحوار التي وُجدت هذه الفضاءات أصلاً لترسيخها.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...