حين يتحوّل الغذاء إلى هوس… الوجه الخفي لثقافة الريجيم الحديثة

في زمن تطغى فيه ثقافة الصورة والمظهر الخارجي، أصبح النظام الغذائي الصحي، الذي كان يُفترض أن يكون وسيلة لتحسين جودة الحياة، يتحوّل لدى فئات واسعة من الناس إلى هوس يومي قد تكون عواقبه الصحية والاجتماعية أكثر ضررًا مما يُتصوّر. من الوجبات الخالية من الكربوهيدرات، إلى أنظمة “الديتوكس” الصارمة، وانتهاءً بالحميات النباتية المتشددة، أصبح الريجيم في بعض الأوساط ظاهرة اجتماعية ضاغطة، تتجاوز بكثير حدود العناية بالصحة.

الصحة العامة، حسب توصيات منظمة الصحة العالمية، تعتمد على توازن غذائي يشمل جميع العناصر الأساسية: البروتينات، الكربوهيدرات، الدهون الصحية، الفيتامينات، والمعادن. لكن الملاحظ أن كثيرًا من الأشخاص، خاصة في الفئات العمرية الشابة، ينخرطون في أنظمة غذائية قاسية دون استشارة مختصين، ما يؤدي إلى نقص حاد في العناصر الحيوية، وإلى اضطرابات في وظائف الجسم، مثل ضعف المناعة، خلل في ضغط الدم، هشاشة العظام، وتساقط الشعر.

على المستوى الاجتماعي، بات الريجيم يُستخدم أحيانًا كرمز للانتماء الطبقي أو الثقافي، حيث تُمارس ضغوط غير مباشرة على الأفراد لمجاراة “النمط الصحي” الرائج، خصوصًا في المدن الكبرى والوسط الحضري.

وأصبح من الشائع أن تجد أشخاصًا يتفادون الولائم العائلية أو التجمعات لأن “الأكل غير صحي”، ما يخلق نوعًا من العزلة الاجتماعية والاختلال في التوازن اليومي. فالعادات الغذائية التقليدية، التي كانت تجمع الناس وتُعبّر عن الترابط العائلي، باتت مهددة أمام موجة الحميات الغربية المستوردة.

المفارقة أن الهوس بالغذاء الصحي قد يؤدي إلى نتائج غير صحية إطلاقًا. دراسة نُشرت في المجلة الأوروبية للتغذية الإكلينيكية European Journal of Clinical Nutrition، تؤكد أن الحميات القاسية المتكررة قد تُربك الأيض وتؤدي إلى زيادة الوزن على المدى الطويل بدلًا من فقدانه، بسبب اضطراب في عمليات الحرق واحتباس السوائل وفقدان الكتلة العضلية.

في السياق ذاته، يشير خبراء التغذية في “الجمعية البريطانية للتغذية” إلى أن أغلب المنتجات التي تُسوّق على أنها “خالية من الدهون” أو “قليلة السعرات” غالبًا ما تكون مليئة بالسكريات الصناعية أو المواد الحافظة، ما يجعلها في الواقع أقل فائدة للجسم من الطعام التقليدي الطبيعي إذا تم تناوله باعتدال.

اليوم، بات من الضروري إعادة تعريف معنى “الغذاء الصحي”، بعيدًا عن المبالغة أو التقشف الغذائي غير المبرر. فالتوازن، التنوع، واحترام الخصوصية الجسدية لكل فرد، هي القواعد الأساسية التي يجب أن تحكم علاقتنا بالغذاء.

فالصحة لا تُقاس فقط بالوزن أو عدد السعرات، بل بقدرة الإنسان على العيش بجسم قوي، ونظام غذائي مستدام، يُعزز مناعته ويواكب نمط حياته، دون أن يعزله عن محيطه أو يؤذيه في المدى البعيد.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...