تشهد المنصات الرقمية في المغرب خلال السنوات الأخيرة نقاشات متصاعدة حول مسألة الهوية الثقافية، وهي قضية قديمة جديدة ظلّت حاضرة في المشهد الفكري والسياسي، لكنها أخذت بعداً مختلفاً مع بروز الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي التي أضحت فضاءً مفتوحاً للتعبير والجدل وإعادة صياغة المفاهيم.
المغرب بلد يتميز بتعدد روافده الثقافية واللغوية، إذ يجمع بين العربية والأمازيغية والحسانية، فضلاً عن الحضور التاريخي للغات الأجنبية كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية. هذا التنوع ينعكس بوضوح في الفضاء الرقمي، حيث نجد محتوىً متنوعاً يعكس هذه التعددية الثقافية. غير أن هذا التنوع ذاته يثير تساؤلات عميقة: هل يسهم في تعزيز الوحدة الثقافية عبر التعدد، أم يُعمّق الانقسامات عبر الاصطفافات اللغوية والثقافية؟
الجيل الجديد من الشباب المغربي، وهو الأكثر نشاطاً على منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام”، يتأرجح بين الرغبة في الانفتاح على العالم عبر تبني لغات وأساليب عيش عصرية، وبين التمسك بالانتماء الثقافي من خلال إبراز الرموز التراثية والتاريخية المغربية. ففي الوقت الذي يبرز فيه محتوى يعكس الأزياء التقليدية والأطباق الشعبية والموسيقى التراثية، تنتشر في المقابل أنماط أخرى تستلهم الثقافة الغربية في الموسيقى والموضة وأسلوب الحياة. هذه الازدواجية تخلق جدلاً مستمراً بين فئة ترى في ذلك ثراءً وتنوعاً، وأخرى تعتبره تهديداً للهوية وذوباناً في الآخر.
ومن أبرز القضايا التي تُثير النقاش على شبكات التواصل مسألة اللغة. فهناك من يدافع عن ترسيخ العربية كلغة جامعة، وآخرون يطالبون بإعطاء مكانة أكبر للأمازيغية باعتبارها مكوّناً أصيلاً، في حين يرى فريق ثالث أن الانفتاح على اللغات الأجنبية أمر ضروري لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي.
العالم الرقمي اليوم لا يعرف حدوداً، والمنصات التي يستخدمها المغاربة هي نفسها التي يستعملها الملايين حول العالم. وهذا يضع الهوية الثقافية في مواجهة مباشرة مع العولمة الرقمية التي تفرض نماذج ثقافية وسلوكية جديدة. غير أن الفضاء الرقمي لا يُمثل تهديداً فقط، بل يمكن أن يكون أيضاً فرصة لتعزيز الهوية الثقافية المغربية عبر تصدير محتوى محلي قادر على المنافسة والانتشار، كما هو الحال مع الأغنية المغربية الحديثة التي نجحت في اكتساح الساحة العربية.
إن النقاش حول الهوية في الفضاء الرقمي لا ينبغي أن يُختزل في ثنائية الأصالة والمعاصرة، بل يحتاج إلى رؤية متوازنة تجعل من الانفتاح وسيلة لتعزيز الحضور الثقافي المغربي عالمياً، لا خطراً يهدد خصوصيته. كما أن السياسات العمومية مطالَبة بمواكبة أكبر لهذه التحولات عبر دعم المحتوى المحلي وتشجيع الإنتاج الثقافي الرقمي وإدماج التربية الإعلامية في المناهج الدراسية، حتى يكون الشباب أكثر وعياً بقدرتهم على التأثير في صورة بلدهم.
ويبقى سؤال الهوية في الفضاء الرقمي المغربي سؤالاً مفتوحاً، يتجاوز النقاشات السطحية إلى رهانات مستقبلية عميقة: كيف يمكن للمغرب أن يحافظ على ثوابته ويُعزز انتماءه الثقافي، وفي الوقت ذاته يواكب التحولات الرقمية المتسارعة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تقتصر على الأفراد أو النخب، بل تتطلب حواراً مجتمعياً شاملاً يؤسس لرؤية تجعل من التنوع قوة، ومن الانفتاح فرصة، ومن الفضاء الرقمي مجالاً لترسيخ الهوية الثقافية المغربية في عصر العولمة.