شهدت السنوات الأخيرة بروز ظاهرة لافتة في سلوك مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتقل عدد متزايد من الأفراد من مرحلة التفاعل النشط والمشاركة المستمرة إلى حالة من “الصمت الرقمي”، أي الاكتفاء بالاستهلاك السلبي للمحتوى دون ترك أي أثر يذكر من تعليق أو مشاركة أو إنتاج، هذه الظاهرة لم تعد مجرّد سلوك فردي عابر، بل أصبحت ملمحًا عامًا رصده خبراء الإعلام الرقمي وأكّدته دراسات حديثة، من بينها تقرير نشرته منصة “GWI” سنة 2024، أشار إلى أن أكثر من 40% من مستخدمي شبكات التواصل في المنطقة العربية يعترفون بأنهم يفضلون المتابعة الصامتة على التفاعل المباشر، إما بدافع الملل أو الخوف من الانتقاد أو لشعورهم بعدم جدوى المشاركة.
يرتبط الصمت الرقمي في جوهره بعوامل اجتماعية ونفسية متعددة، فمن جهة يشعر كثير من المستخدمين بأن الفضاء الرقمي أصبح مشبعًا بمحتوى احترافي ومنسق بشكل يتجاوز إمكانيات الأفراد العاديين، مما يخلق لديهم إحساسًا بأن مساهماتهم ستكون بلا قيمة أو ستضيع وسط الكم الهائل من المواد المنشورة. ومن جهة أخرى، يساهم تنامي ثقافة النقد السلبي والهجوم الشخصي في دفع الأفراد إلى التراجع عن التفاعل، خشية الدخول في جدالات حادة أو أن يصبحوا هدفًا للتنمر الإلكتروني، وقد أظهرت دراسة لجامعة “نورث إيسترن” الأمريكية سنة 2023 أن تعرض الأفراد لتعليقات سلبية يقلل بنسبة 25% من احتمالية استمرارهم في النشر والتفاعل في المستقبل.
لا يقتصر الأمر على البعد النفسي فقط، بل يرتبط أيضًا بخوارزميات المنصات نفسها، التي تعطي الأولوية للمحتوى الأكثر إثارة أو الذي يحظى بمعدلات تفاعل عالية، هذه السياسة تجعل المستخدم العادي في موقع “المستهلك” بدل “المساهم”، حيث يشعر أن صوته ضعيف ولا يستطيع منافسة المؤثرين أو الصفحات الكبرى، وهو ما عبّر عنه باحثون في مجال الإعلام الرقمي بمصطلح “اقتصاد الانتباه”، حيث تصبح القدرة على جذب النظر والاحتفاظ بالاهتمام سلعة لا يمتلكها سوى قلة من الفاعلين المهيمنين.
تطرح هذه الظاهرة تساؤلات عميقة حول مستقبل التفاعل الاجتماعي في الفضاء الرقمي، فإذا كان الهدف الأصلي من هذه المنصات هو تعزيز المشاركة وتوسيع نطاق حرية التعبير، فإن انتشار “الصمت الرقمي” يعكس انحرافًا عن هذه الغاية. وهو ما يستدعي، في نظر خبراء علم الاجتماع، التفكير في آليات جديدة لإعادة التوازن، سواء عبر حملات توعية تحفّز الأفراد على التعبير عن آرائهم دون خوف، أو عبر سياسات أكثر عدلاً في خوارزميات التوزيع تسمح بظهور أصوات مختلفة بعيدًا عن منطق الهيمنة الرقمية.
في المحصلة، يمكن القول إن “الصمت الرقمي” ليس مجرد امتناع عن الكلام، بل هو خطاب صامت يحمل دلالات اجتماعية عميقة، إنه انعكاس لمعادلة غير متكافئة بين الأفراد والمؤثرين، وبين الحرية الموعودة والرقابة الاجتماعية الصارمة، وبين الرغبة في المشاركة والخشية من تبعاتها، وإذا لم تتم معالجة هذه المعضلة، فقد نجد أنفسنا أمام فضاء رقمي واسع، لكنه مأهول بجمهور يراقب ولا يتكلم، يستهلك ولا يساهم، الأمر الذي يحوّل الحوار الرقمي إلى عرض أحادي الصوت تسيطر عليه قلة قليلة من الفاعلين.