تمكين الصحافة من أدوات البيانات.. ورشة تدريبية لتعزيز دور الإعلام في مكافحة الفساد

في إطار تعزيز الشراكة بين الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها ومختلف الفاعلين الإعلاميين، وحرصًا على دعم التكوين المستمر للصحفيين وتمكينهم من أدوات تحليل البيانات ومواكبة قضايا الشأن العام، انطلقت أشغال الدورة التكوينية حول موضوع “صحافة البيانات ودورها في مكافحة الفساد”، بحضور ثلة من الإعلاميات والإعلاميين وخبراء في المجال.

وفي افتتاح هذا اللقاء التكويني، الذي يأتي ثمرة تعاون مثمر مع شبكة “أريج”، ألقى ممثل الهيئة الوطنية للنزاهة الكلمة التالية؛

” السيدة الخبيرة إيثار العظم، ممثلة شبكة أريج؛

حضرات السيدات والسادة الصحفيات والصحفيين المحترمين؛

اسمحوا لي بداية أن أعبر لكم عن اعتزازي بتواجدي معكم اليوم، في هذا المكان الرائع، الذي اخترناه لإنجاح هذه الدورة التكوينية حول موضوع “صحافة البياناتودورها في مكافحة الفساد ” والتي تُجسّد إرادةً صادقة للنقاش البناء حول واحدة من أبرز أدوات التغيير في مجال المكافحة.

لذا يطيب لي أن أفتتح معكم أشغال هذا اللقاء الذي نعتبره، امتدادًا لشراكتنا الطبيعية مع الجسم الإعلامي، وإقرارًا معلنا بأهمية تمكين الصحفيين من أدوات تحليل المعطيات، وتتبع تدبير الشأن العام، والمساهمة في ترسيخ الشفافية والمساءلة في الأداء العمومي.

السيدات والسادة؛

لست محتاجا في هذا المقام إلى التأكيد على أن مكافحة الفساد ليست شأنًا حكوميًا أو مؤسساتيًا داخليًا فقط، بل هي قضية مجتمع بكل مكوناته، كما قال جلالة الملك، تتقاطع فيها أدوار السلطات العمومية، وهيئات الحكامة، والمجتمع المدني، وطبعا، الإعلام المهني المسؤول، بما يملكه من قوة تأثير على الرأي العام، وقدرة على تحويل قضايا الفساد إلى نقاش عمومي عميقومنتج، لا إلى مجرد زوابع سطحية أو حملات ظرفية.

وهو ما يدفعني إلى الجزم باعتبار “صحافة البيانات” أداة مركزية لترجمة الحق في المعرفة إلىواقع ملموس، وتحرير النقاش العمومي من التعتيم والسطحية وتحويله نحو وجهة تضمن عمق الفهم المبني على جودة المعطيات ودقة الوقائع المقدمة.

إن صحافة البيانات“، حضرات السيدات والسادة، ليست مجرد جنس صحفي تقليدي، بل تحوّلًا نوعيًا في آليات التتبع، والتوثيق، والتحليل، والكتابة الصحفية. إنها منهجية اشتغال ترتكز على التحليل الإحصائي، وتقاطع المعطيات، والاستقصاء الوثائقي، بالاعتماد على قواعد بيانات مفتوحة. هدفها إعادة بناء المعلومة المجردة ضمن سردية صحفية قائمة على معطيات دقيقة، تُعرض في شكل قصة مدعومة بالأدلة الرقمية.

الصديقات والأصدقاء؛

إن الحق الدستوري في المعلومة، يظل ناقصًا ما لم يصاحبه تمكين المواطن من أدوات الفهم والتحليلوالاستيعاب، وهنا يبرز دور هذا الجنس الصحفي،القائم على تحليل البيانات، وقدرته على تحويل الأرقام الجافة إلى قصص صحفية حقيقية، تجسد شفافية المعلومة وتُقرب الحقيقة من المواطن.

إن الممارسة الصحفية المرتكزة على البيانات تنتقلفي موضوع لقائنا من مجرد الرصد السلبيللوقائع إلى صناعة الوعي بالمعلومة المؤسِّسةللمساءلة، وتساهم في تحويل المعطيات الرقمية إلى سلطة مضادة فاعلة، تكون بمثابة رادار مجتمعي يلتقط مظاهر الانحراف، ويعيد توجيه البوصلة نحو الإصلاح بعيدا عن مظاهر الاختلاق والإشاعة.

ولذلك، فإننا نرى في هذه الصحافة شكلا جديدًا من أشكال تفكيك شبكات المصالح، وتتبع مسارات المال العام، وبالتالي مكافحة الفساد، شكلا، يُقرّب المواطن من آليات الرقابة والمحاسبة الواعية، ويمنحه أدوات الفهم والتفسير، بدل تركه أسير العناوين المبهمةوالأرقام الجافة.

السيدات والسادة؛

إن المادة الخام لصحافة البيانات ليست دائمًا سرًّا محميا، أو معلومة مسربة، بل هي موجودة في قواعد البيانات العمومية، وفي التقارير الرسمية، وفيالمعطيات المفتوحة، التي تستدعي من الصحفي التحلي بالمهنية والمهارة والأخلاق، وبالقدرة على استخراج المواضيع ذات الصلة بالمصلحة العامة.

وبالتالي، فإن القانون المتعلق بالحصول على المعلومات، على أهميته، ليس، في موضوع لقائنا، سوى أحد روافد هذه الممارسة. فالمعلومة توجد حيثما كانت الشفافية، وحيثما توافرت الإرادة المؤسسية لإتاحة المعطيات القابلة للتحليل والمطابقة، وهذا ما نسعى في الهيئة الوطنية للنزاهة إلى تعزيزه عبر برامجنا وشراكاتنا الاستراتيجية مع الهيئات والمؤسسات المعنية، ومع القطاع الخاص والمجتمع المدني، وبطبيعة الحال مع الجسم الإعلامي الذي تعتبر هذه المبادرة إحدى تجلياته الهامة.

حضرات السيدات والسادة؛

إننا اليوم نعكس وعيًا عميقًا بضرورة تجاوز أنماط التلقي التقليدية، والانخراط في صحافة تعنى برصد التناقضات في السياسات العمومية، وكشف الاختلالات المرتبطة بالتدبير المالي والإداري، صحافة تحقق في المعطى، لا في المصدر فقط.

إننا اليوم نبرهن على قناعة مشتركة مفادها أن دور الإعلام لا يقتصر على مواكبة مسار الإصلاح، بل يمتدليصبح فاعلًا فيه، عبر مرافقة جهود مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، وإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته.

إن حضورنا اليوم، وانخراطنا في هذا الورش التكويني، هو دليل على وعي جماعي  بدور الإعلام في بناء منظومة النزاهة. فإذا كننا في الهيئة مطالبين بإنتاج المؤشرات والأرقام، فنحن دون أدنى شك محتاجون أكثر إلى وسطاء مهنيين محترفين لإبلاغ الرسائل التي تحملها تلك المؤشرات والأرقام، ونقلها إلى الرأي العام بلغة واضحة، دقيقة ومسؤولة.

وإني إذ أؤكد من جديد أن صحافة البيانات ليست ترفًا تقنيًا، بل معركة مجتمعية دفاعًا عن الحق في المعرفة، وعن الحق في العيش في بيئة نزيهة، فإنني أجدد التزام الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، بمواكبة كل المبادرات التي تستهدف تمكين الصحافة الوطنية من أدوات تحليل البيانات ومراقبة الشأن العام، بما يعزز مكانة الإعلام كفاعل رئيسي في محاربة الفساد، لا كمجرد ناقل للخبر.

إن “ميثاق الشفافية” لا يكتب فقط في تقارير الدولة والمؤسسات، بل يكتب أيضا على صفحات الصحف والمواقع الجادة، ويُبث في منصات الإعلام المسؤول. لذا فإننا نراهن عليكم – كصحفيات وصحفيين – أن تكونوا جزءًا من دينامية وطنية لا تهادن الفساد، ولا تتواطأ مع الصمت، وأيضا لا تنجر وراء السطحية والإثارة، بلتسعى إلى تعزيز الثقة بين المواطن والدولة من خلال معبر الحقيقة.

لنواصل معًا هذا المسار، ولنُحوّل المعطيات إلى مساءلة، والمؤشرات إلى قصص، والإعلام إلى شريك في الإصلاح.

وفي ختام هذه الكلمة اسمحوا لي باسمكم جميعا أن أثمّن عاليا الشراكة القائمة بين الهيئة وشبكة “أريج”، وأن أوصل جزيل الشكر وخاصته للصحفية المتخصصة والمدربة القديرة السيدة إيثار العظم، متمنيا لها إقامة طيبة بيننا في بلدها الثاني.                    

والسلام عليكم”

 

وفي الختام، تؤكد هذه الدورة التكوينية، التي جمعت بين الهيئة الوطنية للنزاهة وشبكة “أريج” وثلة من الصحفيات والصحفيين، أن معركة محاربة الفساد ليست مسؤولية منفردة، بل ورش جماعي تتقاطع فيه أدوار الإعلام المهني مع جهود المؤسسات.

فتمكين الصحافة من أدوات تحليل البيانات ورصد السياسات العمومية، ليس فقط دعماً للحق في المعرفة، بل هو ركيزة أساسية لبناء مجتمع شفاف، واعٍ، ومسؤول، يضع المواطن في قلب المساءلة ويمنح الحقيقة مكانها في فضاء النقاش العمومي.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...