الشلاهبي” في مرآة المجتمع.. من “كبور” إلى الفضاء الرقمي

في خضم التحولات التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، لم تعد اللغة مجرد وسيلة للتواصل اليومي، بل تحوّلت إلى أداة عميقة للتشخيص الاجتماعي، تكشف عن تمثلات المجتمع وقيمه، وتترجم نظرته إلى السلوك الفردي ضمن المنظومة الجماعية. من بين المصطلحات التي برزت بقوة في هذا السياق داخل الثقافة المغربية، يبرز مصطلح “الشلاهبية”، الذي تجاوز كونه تعبيراً دارجاً إلى أداة شعبية تُستعمل في توصيف سلوكيات تعتبرها الجماعة غير أخلاقية، مراوغة، أو انتهازية.

” كلمة “الشلاهبي” في الدارجة المغربية تُستخدم للإشارة إلى شخص يوصف بالتحايل والدهاء في تحقيق مصالحه الخاصة، دون مراعاة للأعراف أو القيم المجتمعية، وهي كلمة ذات حمولة ثقيلة في المخيال الشعبي، إذ لا تُطلق اعتباطًا، بل غالبًا ما تُستعمل للحكم على سلوك يرى فيه الناس خروجًا عن قواعد الإنصاف أو الانضباط الأخلاقي.

غير أن المصطلح في حد ذاته لا يقف عند حدود اللغة، بل يعكس وعياً اجتماعياً يُخضع السلوك اليومي لمحكمة رمزية، تُصدر “أحكامها” من خلال توصيفات لغوية لاذعة، تختزل استياء المجتمع من ظواهر سلبية متكررة، كالتملص من المسؤولية، واستغلال الفرص دون وجه حق، والتلاعب بثقة الآخرين.

من أبرز الشخصيات التي جسّدت هذه السمات بطريقة فنية ساخرة، شخصية “كبور”، التي أبدع فيها الفنان حسن الفد، فرغم المظهر البسيط والقروي للشخصية، فإنها تبرع في استغلال المواقف لمصلحتها، مستخدمة الحيلة، والسخرية، والدهاء الاجتماعي لتحقيق مكاسب فردية.

كبور ليس “شلاهبيا” بالمعنى الأخلاقي الحاد، لكنه يقدم نموذجاً مبالغاً فيه لما يُعتبر سلوكاً ماكراً في المجتمع، مما جعله أقرب إلى صورة “الشلاهبية” كما يتصورها الناس: شخص يتقن المراوغة، يُجيد تقديم نفسه كضحية، ويعرف كيف يلتف على القواعد بأسلوب فكاهي خفيف. بذلك، تتحول شخصية كبور إلى مرآة ساخرة تسلط الضوء على ممارسات منتشرة في الحياة اليومية، لكنها تُعرض في سياق كوميدي يسمح بالتأمل والنقد من دون مواجهة مباشرة.

بعيدًا عن التلفزيون، انتشر مصطلح “الشلاهبية” بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يُستخدم لوصف سلوكيات متنوعة تتراوح بين البسيط والمعقّد، من التحايل في المعاملات اليومية، إلى اختراق الصفوف، أو الحصول على منافع دون استحقاق، كما تُوظف الكلمة أحيانًا في منشورات ساخرة، أو مقاطع تمثيلية، أو هاشتاغات تنتقد ممارسات سائدة، ما يعكس تنامي الحس النقدي في المجتمع، والرغبة في مساءلة القيم والسلوكيات من خلال لغة الناس أنفسهم.

هذه الاستعمالات الحديثة للمصطلح تبرز كيف يمكن للغة الشعبية أن تتحول إلى أداة للتقويم الأخلاقي والتعبير عن القيم الجماعية، “الشلاهبية” هنا ليست مجرد شتيمة، بل فعل لغوي يُدين، ويصنّف، ويفضح، ويعيد ترتيب العلاقات الاجتماعية. حيث تُعد السخرية أحد أبرز المداخل التي يُعبّر بها المغاربة عن استيائهم من الظواهر السلبية، و”الشلاهبية” تأتي في هذا السياق كوسم اجتماعي ساخر يُطلق على من يتجاوز القواعد بشكل فاضح. وبينما يضحك الناس من مشهد تمثيلي لكبور وهو يتلاعب بالكلمات والمواقف، فإن هذا الضحك يخفي إدراكًا واعيًا بأن ما يُعرض ليس بعيدًا عن الواقع.

مصطلح “الشلاهبي” بما يحمله من دلالات لغوية واجتماعية، ومن خلال تجلياته الفنية في شخصية كبور، يُعدّ نافذةً لفهم جانب من التحولات الثقافية والقيمية التي يشهدها المجتمع المغربي. إنه تعبير شعبي عفوي، لكنه غني بالمعاني، يُجسد توتراً قائماً بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، بين ما هو مضحك وما هو مؤلم، وبين ما يُمارَس في الظل وما يُفضَح في العلن، وبين الطرافة والنقد، تبقى “الشلاهبي” أكثر من مجرد كلمة، إنها تعبير حيّ عن وعي اجتماعي يراقب، ويقيّم، ويطلب التغيير، بلغته الخاصة.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...