الوجه المظلم للكوتشينغ.. توقف عن تطبيق كل ما تسمع على السوشل ميديا

في زمن التحول الرقمي، لم يعد غريبًا أن نصادف كل صباح وجهًا جديدًا يلقب نفسه بـ”كوتش”، ويخاطب الملايين عبر الشاشات الصغيرة بلغة الواثق الخبير، يمنح الوصفات الجاهزة، يوجه ويُقوِّم، يزرع المفاهيم، ويهدم أخرى، وكأن الإنسان مجرد قالب قابل للتشكيل بتعليمات عابرة. غير أن ما يبدو ظاهريًا خطابًا تحفيزيًا أو دعوة للتطور، يخفي خلفه إشكالية أعمق بكثير: انتشار ظاهرة “الكوتشينغ العشوائي” الذي لا يراعي أبسط مقومات التخصص ولا أبجديات احترام خصوصية الإنسان ككائن معقد.

المؤسف أن هذا المجال، الذي وُجد في الأصل لدعم الأفراد ومساعدتهم على تحقيق توازن داخلي حقيقي، أصبح في كثير من الأحيان ملاذًا لمن لا مهنة له. لا تكوين أكاديمي، ولا تراكم معرفي، ولا تجربة حياتية ناضجة، فقط قدرة على التحدث أمام الكاميرا وموهبة في صناعة العبارات الرنانة. وهكذا، يتم التغرير بآلاف المتابعين يوميًا بنصائح قد تبدو ذكية للوهلة الأولى، لكنها لا تستند إلى عمق علمي ولا تراعي اختلافات الناس، لا في بيئتهم، ولا في تاريخهم النفسي، ولا في ظروفهم الاجتماعية.

الخطورة لا تكمن فقط في جهل الكوتش غير المؤهل، بل في تعطش المتلقي لسماع إجابة حاسمة عن قلقه، توجيه سريع لعلاقاته، حلّ مباشر لمشكلاته، دون أن يدرك أن هذه النصائح ـ مهما بدت منطقية ـ قد تكون مدمرة حين تُنتزع من سياقها وتُطبق كأنها قانون شامل. فكل إنسان هو عالم قائم بذاته، وما قد ينفع شخصًا قد يضر آخر، وما يداوي جرحًا عند البعض قد يفتحه من جديد عند آخرين. ومع ذلك، يُلقي هؤلاء المتحدثون نصائحهم وكأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، متجاهلين أنهم قد يعبثون بمصائر بشرية.

فوضى الكوتشينغ جعلت من الساحة سوقًا مفتوحًا لا حسيب فيها ولا رقيب، حيث يختلط الهاوي بالمتمرس، ويصعب على المتلقي العادي التمييز بين من يحمل معرفة حقيقية، ومن يتحدث فقط من أجل أن يُسمَع. القليل فقط ممن تصادفهم يمتلكون الوعي الكافي والعمق اللازم للغوص في تعقيدات الإنسان ومرافقته باحترام، أما البقية فهم مجرد أصوات تكرر بعضها، تبحث عن التفاعل لا عن التأثير، وتُرَوِّج للأجوبة الجاهزة دون أدنى اعتبار لتأثيرها على حياة من يسمعها.

إننا بحاجة ملحّة اليوم إلى إعادة النظر في ثقافة التلقي، وإلى رفع الوعي بخطورة اتباع أي نصيحة لمجرد أنها قيلت بثقة أو انتشرت بقوة. فالنضج لا يكون في رفض الإرشاد، بل في حسن اختياره. يجب أن نُدرك أن تطوير الذات ليس وصفةً تُطبخ على عجل، بل رحلة معقدة تبدأ من الداخل، ولا يرافقنا فيها إلا من يحمل علمًا وخبرة ومسؤولية، لا من يتحدث لمجرد أن يُسمَع.

شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...