الكاتب: رضوان الله العطلاتي
بينما تتقاذف أوروبا رياح التغيرات الجيوسياسية، تنكشف حقيقة لا غبار عليها مفادها أن السياسة الأمريكية تجاه القارة العجوز تمر بمرحلة إعادة تقييم، فلم يعد النهج التقليدي الذي يضمن لأوروبا درعا دفاعيا أمريكيا بلا مقابل أمرًا مسلمًا به، بل بات مرتبطًا بلعبة حسابات المصالح والتوازنات الدولية، حيث تدفع التحديات المتزايدة واشنطن إلى إعادة ترتيب أولوياتها.
في مؤتمر ميونيخ للأمن، أطلق وزير الدفاع الأمريكي بيت هيكس، تصريحًا هز أركان القاعة وكشف موقفا أكثر وضوحًا، مؤكدًا أن الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا ليس أبدياً، ما أثار قلق القادة الأوروبيين الذين يرون في هذه التصريحات تحولًا في الالتزام الأمريكي تجاه حلف شمال الأطلسي، هذا التغيير لا يعني بالضرورة انسحابًا فوريًا، لكنه يشير إلى رغبة واشنطن في إعادة توزيع أدوارها العسكرية وفقًا لأولوياتها الاستراتيجية.
على الجانب الآخر، تستمر النقاشات حول مستقبل أوكرانيا والعلاقة الأمريكية الروسية، حيث كشفت تقارير أن واشنطن وموسكو قد بدأتا بالفعل في فتح قنوات سرية لبحث كيفية إنهاء الحرب، وهو ما يثير تساؤلات حول دور أوروبا في هذه المعادلة، ففي الوقت الذي سعت فيه القارة لدعم كييف على المستويين العسكري والاقتصادي، تبدو الولايات المتحدة أكثر انفتاحًا على التفاوض، مما يضع الأوروبيين في زاوية ضيقة؛ فواقع جديد بدأ يفرض نفسه، ويجعلهم أمام تحدي إعادة صياغة استراتيجياتهم الدفاعية والسياسية، في مواجهة مشهد عالمي يتغير بسرعة مذهلة.
اللقاء الذي جمع بين ترامب وماكرون في البيت الأبيض تخللته مصافحة حادة تعكس جانبًا من التنافس الدبلوماسي بين الطرفين، ورغم التصريحات المتبادلة التي تعكس رغبة كل طرف في الحفاظ على التحالف الاستراتيجي، فإن الاختلافات حول مستوى الالتزام الأمريكي تجاه أوروبا تظل واضحة، فبينما تؤكد واشنطن على أهمية تقاسم الأعباء العسكرية، ترى العواصم الأوروبية أن التحالف بين ضفتي الأطلسي ينبغي أن يستمر على أسس ثابتة، بعيدًا عن الحسابات الآنية.
مسألة تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا تطرح تحديات استراتيجية للقارة، حيث تعتمد العديد من الدول على هذا الوجود لضمان توازن القوى مع روسيا، فالولايات المتحدة تمتلك أكثر من 100 ألف جندي في القارة، موزعين على قواعد استراتيجية في ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا، وإسبانيا، مع انتشار إضافي في دول البلطيق ومناطق أخرى، وإذا ما تم تقليص هذا الحضور، سيجد الأوروبيون أنفسهم مضطرين لتحمل المسؤولية الدفاعية بشكل مستقل، وهو ما يتطلب منهم ضخ استثمارات ضخمة لتطوير قدراتهم العسكرية.
ألمانيا التي تستضيف أكبر عدد من القواعد الأمريكية، أبدت قلقها من هذه التطورات، فتقارير إعلامية أشارت إلى أن المسؤولين في برلين يخشون تأثير أي انسحاب أمريكي على أمن المنطقة، خصوصًا مع استمرار التوترات في شرق أوروبا. في المقابل، هناك من يرى أن هذا التحول يمكن أن يدفع أوروبا إلى تعزيز صناعاتها الدفاعية وتطوير استراتيجيات أمنية أكثر استقلالية، بما يتيح لها الاعتماد على قدراتها الذاتية.
كما أن مسألة الأمن الأوروبي لم تعد تقتصر على الجوانب العسكرية فحسب، بل أصبحت تشمل القدرات الاستخباراتية، فعلى امتداد عقود كانت دول أوروبا تعتمد على تبادل المعلومات الأمنية مع الولايات المتحدة من خلال شبكات استخباراتية متقدمة، لكن في ظل التوجه الأمريكي لإعادة النظر في التزاماتها، قد تجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة لإنشاء أنظمة استخباراتية مستقلة، وهو تحدٍّ يتطلب استثمارات كبيرة ووقتًا طويلًا.
السياسات الأمريكية الجديدة تضع الأوروبيين أمام معادلة جد معقدة، حيث يُفرض عليهم الاختيار بين مسارين محفوفين بالتحديات: إما التكيف مع التغيرات من خلال تعزيز قدراتهم الدفاعية، أو التوصل إلى تسويات جديدة مع واشنطن تضمن استمرار التعاون العسكري وفق صيغ جديدة. ومع تسارع التحولات التي تعصف بالمشهد العالمي؛ سؤال محوري يطفو على السطح: كيف ستتمكن أوروبا من إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية في ظل إعادة تشكيل موازين القوى الدولية؟