في زوايا مدينة القنيطرة، حيث يلتقي الواقع بأغرب السيناريوهات تقف الكلاب الضالة كأبطال غير مرحّب بهم في مسرحية جدلية تُعرض يوميًا على شوارع المدينة، لا يخفى على أحد أن هذه الكائنات، التي قد تبدو للبعض كرمزٍ للبراءة، تحوّلت إلى تهديد يومي يُفزع الصغار والكبار على حد سواء. ومع ذلك، فإن القصة الحقيقية لا تتعلق بالكلاب بقدر ما تتعلق بالبشر، بما يحلمون به وما يخشونه.
في شهر نونبر من سنة 2024، سجّلت مدينة القنيطرة وحدها 300 حالة عضة كلب، فيما سجلت 2100 عضة كلب سنة 2023، وهو رقم يكفي لتحويل المدينة إلى مادة دسمة للنقاش الوطني. وبينما بدأت السلطات بتحركاتها لجمع الكلاب ووضعها في مراكز إيواء، ظهرت على الساحة جمعيات الرفق بالحيوان التي رفعت رايات الاعتراض، ورفعت معها تساؤلات لا تنتهي: هل هؤلاء المدافعون عن الكلاب يعبرون حقًا عن صوت الإنسانية؟ أم أن خلف الكواليس رواية أخرى تكتب تفاصيلها؟
مع القليل من التدقيق، يظهر أن القضية ليست فقط عن الكلاب، بل عن المصالح. بعض الجمعيات، التي ارتدت عباءة الرفق بالحيوان، يبدو أنها وجدت في الأزمة فرصة ذهبية للفوز بصفقات إيواء الكلاب الضالة، وهي صفقات تحمل في طياتها عوائد مالية مغرية.
ولكن، أين ذهبت هذه الجمعيات عندما كانت أعداد الكلاب تتزايد بشكل مخيف؟ وأين هي اليوم من تقديم حلول ملموسة؟ الإجابة غالبًا هي: في غياهب الاحتجاجات والخطابات الرنانة.
على الجانب الآخر، يعيش المواطن القنيطري يومياته وكأنه في فيلم رعب، فالخروج ليلاً مغامرة محفوفة بالمخاطر، وعبور الأزقة يُشبه استكشاف أدغال مليئة بالمفترسات، لا يمكن إنكار حاجة الكلاب للرعاية، ولكن هل يجب أن يكون ذلك على حساب سلامة البشر؟ هل فقدنا قدرتنا على الموازنة بين حق الحيوان في الحياة وحق الإنسان في الأمان؟
الأمر الأكثر غرابة هو أن الكثير من هذه الجمعيات تصر على الحديث عن حقوق الحيوان بينما تعجز عن تقديم خطوات حقيقية على أرض الواقع، فلا مراكز إيواء تذكر، ولا برامج فعالة لرعاية هذه الكلاب. وبينما تعلو أصواتهم بالتنديد بقرارات السلطات، يغيب صوت العمل الميداني، فهل يمكن أن نطلق على هذا الرفق بالحيوان؟ أم أنه مجرد رفاهية لفظية لا تسمن ولا تغني من جوع؟
وفي خضم هذه الفوضى، لا يمكننا تجاهل حقيقة أننا نعيش في فصل الخريف، حيث يعاني المشردون والأيتام من قسوة البرد والجوع، فإذا كان الرفق بالحيوان أولوية، فأين هو الرفق بالبشر؟ أم أن الموازنة بين الحاجتين أصبحت ترفًا يصعب تحقيقه في زمن التناقضات؟
ربما آن الأوان لنفكر بواقعية: الكلاب ليست المشكلة، ولكن العجز عن إيجاد حلول مستدامة هو الكارثة الحقيقية. المطلوب ليس القضاء على هذه الكائنات، بل معالجة الأسباب الجذرية التي أوصلتنا إلى هذا الوضع، فالحلول موجودة؛ لكنها تتطلب شجاعة لإحداث التغيير، ومساءلة للنوايا التي تحرك الجمعيات والقرارات.
الكلاب الضالة قد تكون جزءًا من المجتمع، لكن الإنسان يظل أساسه، وبينما نحلم بمستقبل يُحترم فيه الحيوان دون أن يُضطهد الإنسان، يبقى السؤال: هل نحن مستعدون لمواجهة الحقيقة والعمل بصدق، أم أننا سنواصل الدوران في دائرة من التبريرات والاتهامات؟